لك أن تتخيل لحظات الرعب التى عاشتها فتاة الزقازيق، بينما يحاصرها عشرات الشباب محاولين الاعتداء عليها، لا لذنب اقترفته ولا لسلطة يملكها هؤلاء الشباب عليها، سنتيمترات من القماش تكشف عن أزمة حقيقية تضرب نخاع المجتمع المصرى.
مجتمع الوصاية وادعاء الفضيلة والاعتداء على الغير والتدنى، جريمة الزقازيق ليست الأولى من نوعها، فالمرأة المصرية بشكل عام تعيش فى مرمى الاعتداء المتكرر، مجرد خروجها من بيتها مخاطرة، والعودة إليه سالمة هو أقصى أمانيها، فما الذى حدث للمصريين منذ بداية سبعينيات القرن الماضي؟، ببساطة رأينا استطالة فى اللحى وقصورًا فى الفهم كما رأينا نموًا سرطانيًا للبزنس مع تقزم فى المشاعر والإحساس، رأينا عشوائيات تزدهر وانحسارًا متواصلًا لكل ما هو أصيل فى هذا البلد.
وما دام الحال هكذا، لا يجد الواحد منا أملًا سوى فى تفعيل القانون وإشهار سيفه، فكلما تراجعت دولة القانون تغولت دولة الفوضى، وعندما أبدأ فى الحل من خلال القانون، إنما أبدأ به باعتباره الحل العاجل، دون إغفال للحلول التربوية والثقافية والتعليمية التى تؤسس لمجتمع مثالى يليق بدولة حضارية اسمها مصر، ولأن تلك الحلول تحتاج إلى وقت وجهد وزمن مفتوح باعتبارها نوعًا من أنواع التصنيع الثقيل، فلا يجب الانتظار حتى اكتمال تحققها، لا يملك المواطن البسيط ترف الانتظار، ولكنه ينتظر من الدولة استرداد هيبتها وقطع دابر كل معتدٍ على الطريق العام، فالشوارع لم يتم تشييدها من أجل ترسيخ شعار البقاء للأقوى، ولكن تم تشييدها لنمشى فيها على قدم المساواة مستمتعين بالأمان الواجب.
فتاة الزقازيق التى مشت فى الشارع الذى تملكه الحكومة، كان ظنها أن الشارع يتسع للجميع، ولكن الغوغاء كان لهم رأى آخر، احتكروا الفضيلة وقاموا بتفصيلها على مقاسهم وبدأوا العدوان علنًا دون خوف من ضمير أو من دولة ستحاسبهم، تلك الصورة بتفاصيل مختلفة تتكرر مئات بل آلاف المرات يوميًا فى الشارع العام، أصغرها هو عدوان الضوضاء والتلوث وأكبرها هو العدوان الجسدى من طرف على طرف آخر، وما كانت حادثة بتر يد شاب متهم فى سرقة موبايل بالقاهرة، وإقامة حد السرقة عليه بعيدة عن حادث العدوان على فتاة الزقازيق التى لم تعتد على أحد.
الحكاية فى مصر لم تعد تحتمل السكوت، لدينا مشاكل اقتصادية نعم، ولكن الاعتماد على أنها مبرر لكل الكوارث الأخلاقية التى نشهدها هو اعتماد يجعل من تفاقم تلك الكوارث أمرًا منطقيًا، ويجعلنا نُسلم بأن حالات العنف غير المسبوقة التى تشهدها البلاد هى حالات عادية، وهنا يتجلى الكذب بعينه، ليس من المعقول الاستسلام لواقع مرفوض، وليس من الحكمة ابتكار مبررات لكل فعل غشيم قادر على تقويض المجتمع وهدمه وتحويل البلاد إلى غابة البقاء فيها لمن يمتلك أكبر قدر من الشر والبجاحة وكسر القوانين. وطالما اعتصمنا بفكرة القانون كمخرج لضبط الشارع، وجب علينا أن نحذر السلطات نفسها من تجاوزه، ووجب علينا التأكيد على أن رجال الضبط عليهم أن يكونوا الأكثر حرصًا فى الالتزام والمهنية، وذلك لأن غلطة الواحد منهم تساوى ألف غلطة لغيرهم، فالبلطجة التى نرفضها كسلوك فى الشارع من المواطن العادى، نرفضها ألف مرة إذا أقدم عليها واحد من المنوط بهم تنفيذ القانون.
مصرنا تستحق منا الكثير من الانضباط والرقى والتحضر والتمدن، ليس لأننا دولة تعتمد فى جزء كبير من دخلها على السياحة والضيوف الأجانب ولكن لأن شعبها الذى عاش على ضفاف نيلها سبعة آلاف سنة يستحق حياة أفضل، يستحق الأمن والأمان والرفاهية، شعب مصر الذى استطاع ترويض نهر النيل وابتكر هندسة المياه، لا يليق به فى سنواتنا العجاف أن يعيش فى تلك العشوائية القاتلة، لنعتذر إلى فتاة الزقازيق ونُعد الكف المبتور فى القاهرة ونتجه بكل حسم نحو البناء الراقى.