تشهد مصر انتكاسة دامية فى الفكر والقيم والمفاهيم، بعد أن تمكنت من روحها المتجددة أربعة تيارات هالكة؛ تيار يحرض على الابتزاز والرشوة والمحسوبية، بفعل رخص المصالح وضياع المسئولية، وتيار يمارس التستر على الجرائم، والقفز فوق القانون، وانتهاك الحريات، وتيار يغرق فى الهلس والجنس والخرافة والشعوذة، بفعل انهيار التعليم، وغياب الوعى الثقافى، وتيار أخير يكرّس للإرهاب الدينى الصريح، بفعل جمود الأحكام الشرعية المتعفنة فى بحيرة الفقه الراكدة.
تشكل تلك التيارات حصنًا منيعًا فى وجه أى محاولة للإصلاح السياسى والاقتصادى والاجتماعى، وهو ما يُنذِر بكارثة مجتمعية، والنتيجة أحوال معيشية تزداد قسوة وتدهورًا، وأشكال للتدمير والعنف تتفاقم بصورة مفزعة، ومعارضون مازالوا معتقلين، وأفراد ملتاعة ومشوشة ومضللة، وشباب عاجز أمام تعقد أزماته اليومية، وبسطاء لا يجدون أمامهم سوى تصديق فوضى الفتاوى، التى طالت تفاصيل حياتهم إلى حد مؤذٍ ومخجِل.
يعد فيلم «هى فوضى» تجربة سينمائية مهمة، مكتملة العناصر، ذات حس سياسى، نجحت فى تجسيد هموم المواطن المصرى، والبحث فى قضاياه المصيرية، وهو للمخرج المبدع يوسف شاهين وتلميذه النجيب خالد يوسف والمؤلف ناصر عبدالرحمن.
رصد بجرأة صادمة حالة الإعياء الشديدة التى أصابت المجتمع المصرى، وجعلته عاجزًا تمامًا عن الحركة للأمام، لكنه لم يتوقف عند تجسيد آلامه ومعاناته وعثراته، بل رفض الخمول والسكون فى مواجهتها، حينما تنبأ بثورة عارمة بيضاء، يقودها أفراد مخلصون، توحدت إرادتهم على هدف واحد هو محاربة الظلم.
تبدأ الأحداث بحفل تعذيب مجموعة من الشباب المتظاهرين داخل قسم شرطة «شبرا»، الذى حوّله «حاتم» -أمين الشرطة والشخصية المحورية- إلى سجن خاص، يسوق إليه كل من يخالف تعليماته، ولا يستجيب لطلباته، لكننا نرى فى المقابل نموذجًا مغايرًا تمامًا وهو «شريف» -وكيل النيابة الشاب- الذى يحترم حقوق المتظاهرين، ويصدر قرارًا بالإفراج عنهم، وهنا يحدث الصدام بين السلطتين القضائية والتنفيذية، حينما يتجاهل القائمون على العمل بقسم الشرطة قراره، ويُصِرُّون على حبس المتظاهرين.
يسكن «حاتم» فى حى شعبى، ويطارد طول الوقت جارته «نور» من فرط حبه لها، فى الوقت الذى لا تشعر هى بوجوده، وهى الشابة الجميلة والمشرقة، المقيمة مع والدتها «بهية»، التى تعمل بالتدريس فى مدرسة تديرها «وداد» والدة «شريف» حبيبها، وسرعان ما يصبح هذا الرباعى متجانسًا، بفعل الوعى الاجتماعى التقدمى المشترك، رغم الفرق الطبقى الواضح.
يدفع القمع الاجتماعى والجنسى «حاتم» إلى ممارسة كل أشكال العنف والسلوك المنحرف، ويحتدم الصراع حين يعلم أن «شريف» قد انجذب نحو «نور»، وتقدم لطلب يدها، فيقرر الانتقام منهما بخطف «نور» إلى مكان مهجور، والاعتداء على بكارة إحساسها وجسدها، ويتولى «شريف» قضيتها.
رغم محاولات تستر المأمور وضابط المباحث على «حاتم»، إلا أن جهودهما تفشل، ويتم إيقافهما عن العمل، وفى النهاية تقود الناظرة «وداد» والأم «بهية» ثورة شعبية هائلة، يستجيب لها كل الشرفاء الذين تجرعوا مرارة الظلم والقهر، وفى النهاية تقتحم الجماهير الغفيرة قسم الشرطة، وينهار «حاتم» أمام نفسه وينتحر.
يصور الفيلم انسحاق الطبقة العاملة والمجتهدة فى المجتمع المصرى، وهموم هذه الفئة التى لا تزال تحافظ على وجودها وعزة نفسها وكرامتها، لكنها تدفع ثمن ذلك طول الوقت من مالها وفكرها وروحها وجسدها.
يتحسَّر «شاهين» على انهيار التعليم («نور» لا تعرف الإنجليزية رغم تخرجها فى الجامعة)، وانهيار الوعى الثقافى («حاتم» يمزق لوحة نادرة؛ لأنه لا يستطيع نزعها عن الإطار، لبيعها لتاجر مراوغ، وإعجابه بلوحة «مُزوَّرة» أكثر من «الأصل»)، وسيادة الخرافة والشعوذة (لجوء «حاتم» للشيخ والقس والعجوز؛ كى يصنعوا له تعويذة سحرية، تجعل الفتاة تحبه).
جعل «شاهين» الناظرة «وداد» والأم «بهية» هما القوة الأكثر تحريضيًا، حينما تقودان المظاهرة الغفيرة التى تخرج من الحارة الشعبية فى النهاية لتقتحم مركز الشرطة، على اعتبار أن «النساء» أقل قدرة على تحمل الظلم، والأكثر حساسية فى التعبير عن الغضب والاحتجاج والثورة.
من أقوى المشاهد تصوير تفاصيل عودة «نور» بملابس ملوثة بدماء انتهاكها، ثم تتلاقى عيون الأم والابنه فى مصارحة فصيحة صامتة، وتسقط الدموع معلنة حجم الكارثة، وآخر يسأل فيه المأمور «حاتم» قبل أن تَهجُر روحه الجسد: لماذا تبكى؟! فيرد: «لن أرى «نور» مرة ثانية»! فضلاً عن روعة اللقطات الرومانسية التى تنتصر لمفهوم الحب، ومهارة «الأداء الحركى» وجمال «الأنغام» المصاحبة أثناء مشهد الرقص بين «سيلڤى» خطيبة «شريف» السابقة مع راقص الباليه الواعد «أحمد يحيى».
نجح المؤلف فى وضع حوار ثرى ورشيق، وإبراز جهل «أمين الشرطة» من خلال العديد من المواقف، واستطاع أن يجبر الجمهور على التعاطف مع شخصيته رغم تجاوزاته، وجاءت موسيقى «ياسر عبدالرحمن» ذات التنويعات المختلفة معبرة ومناسبة لكل المشاهد والحالات الانفعالية، كما قدم مدير التصوير «رمسيس مرزوق» صورة مبهرة.
أدى الراحل «خالد صالح» دوره بحرفية شديدة، وبرع فى انتقالاته النفسية بين الوداعة والتوحش، وأكدت «منة شلبى» قدرتها الفائقة على التلون فى التعبير بالوجه والعينين والصوت وحركة اليدين والجسد، أما «يوسف شريف» فهو موهبة تجمع بين الجدية والهدوء، أما أداء هالة فاخر وهالة صدقى» فجاء متميزًا وبالغ الخصوصية.
الأهم أن هذا الواقع البائس، الذى جسده الفيلم، رغم كل فساده وانحطاطه، لم يتمكن من قهر «حلم التغيير» الذى ظل صامدًا فى نفوس إيجابية صادقة وصافية، تسعى بإصرار نحو المجاهدة والتكريس والحشد، من أجل مستقبل تسوده العدالة والكرامة والإنسانية والحرية.