دُعيتُ الإثنين الماضى لكى أتحدث فى برنامج «صباح الخير يا مصر» مع الإعلامية المتألقة أميمة تمام عن الإعلام المصرى..الداء والدواء فى إطار قُرب إصدار القرار الجمهورى بتشكيل الهيئات الإعلامية الثلاث، والتى نُعول عليها فى ضبط المنظومة الإعلامية الراهنة، ومعالجة ما لحق بها من تشوهات خلال السنوات الست الماضية منذ ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١، والتى أدت لحالة غير مسبوقة من الفوضى، بفعل استغلال البعض لحالة الانفلات الأمنى، والتى أدت بدورها إلى انفلات الشارع وحالة غير مسبوقة من الانفلات الإعلامى ما زلنا نعيش تجلياتها حتي الآن.
قلت إن الإعلامَ هو انعكاسٌ لحالة المجتمع بكل دقائقها وتفاصيلها، وبالتالى فانفلاتُ الشارع والمجتمع والمؤسسات أدى إلى أمريْن نستطيع أن نتبينهما من على شاشات السينما والتليفزيون، وهما طُغيان أفلام ومسلسلات البلطجة والعشوائيات، وذلك فى تجسيد لانفلات أخلاقى وسيادة منطق القوة فى إدارة أمور الحياة اليومية، وسُرعانَ ما انتقلَ ذلك إلى شاشاتِ التليفزيون فى برامج التوك شو، التى ذخرت بمشادات كلامية وعبارات مُسيئة استهدفت رموزًا وشخصياتٍ ودولًا نحترمُها، وانتقلت هذه البرامج إلى «الحارة» وسلوكياتها، وبدلًا من أن تقدم إعلامًا أصبحت تقدم وصلات من «الردح» وفقرات مثيرة عن الجن والعفاريت وحالات اغتصاب الأزواج لزوجاتهن مع وضع عبارة «للكبار فقط» أعلى يسار الشاشة، وكأن هذه العبارة سوف تمنع الأطفال والمراهقين من مشاهدة البرنامج الذى يعرض فى ساعات ذروة المشاهدة، ويتم رفعه على موقع «يوتيوب».
قلت كذلك إن الإعلامَ المصرى يعانى من حالة من الفُصَام؛ فهو إعلامٌ يقدم الترفيه والتسلية والموضوعات المثيرة بُغْيَةَ زيادة أرقام توزيع الصحف وزيادة معدلات المشاهدة للبرامج، وزيادة المرور للمواقع الإخبارية على شبكة الإنترنت وزيادة العائدات الإعلانية تبعًا لذلك، دون أن يدركَ أننا فى دولةٍ تحاولُ أن تنهضَ بعد أن مرت بثورتيْن أثرتا على حجم الناتج القومى وزيادة البطالة وتراجع الاستثمار والسياحة وتوقف المصانع وتعطل عجلة الإنتاج. وباستثناء إعلام الدولة، الأقل تأثيرًا فى الوقت الراهن، فإن الإعلامَ الخاص باختلاف وسائله تتمُ إدارتُه وفقًا لهذه المنظومة باستثناءاتٍ نادرة.
إن مِصْرَ تواجه ثلاث حروب فى وقت واحد، وهى حروبٌ متعددةُ الجبهات، حروبٌ تجعل من اصطفافِ كلِ مقدراتِ وقوى الدولة الخشنة والناعمة على خط النار فرضَ عين، حروبٌ بكل معنى الكلمة وليست حروبًا مجازية بل حروبًا حقيقية مستعرة. وتتمثلُ هذه الحروب حاميةُ الوَطيس التى تخوضُها الدولة المصرية فى الحرب ضد الإرهاب والحرب ضد الفساد والحرب من أجل التنمية، وهى حروبٌ لم تواجهها الدولة المصرية بهذه الحدة واتساع الجبهات وتعدد الأهداف والمقاصد منذ عصر الدولة القديمة ومرورًا بالدولة الحديثة حتى وقتنا الراهن.
والسؤال الذى يطرح نفسه هو: أين الإعلام «المصرى» من هذه الحروب التى تخوضها الدولة «المصرية»، لماذا انشغل عن مساندة الدولة فى حروبها المستعرة، والتى تكادُ نيرانُها تلتهمُ الجميع وتحولُ شبهَ الدولة إلى أنقاضِ دولة، وساعتُها نصرخُ فى أسى وحسرة: «كانت لنا دولة»؟. لماذا نجدُ لسانَ حالِ الإعلامِ «المصرى» يقولُ للرئيس «المصرى» عبدالفتاح السيسى كما قال اليهود للنبى موسى عليه السلام: « فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ»؟، لماذا رضى الإعلامُ المصرى أن يكونَ مع الخَوالف الذين تخلفوا عن المشاركة فى حروبِ مصر، كما تخلفَ الأعرابُ المنافقون عن نُصرةِ رسولِ الإسلام عليه صواتُ الله وسلامه؟.
فى الحرب ضد الإرهاب لماذا كان الإعلامُ يسارعُ بهدف السَبْقِ والإثارة واجتذاب الزائرين للمواقع الإخبارية بالاعتماد على المعلومات التى يكون مصدرها الإرهابيون والجماعات الإرهابية دونَ انتظارِ بياناتِ القوات المسلحة المصرية؟، لماذا ركزَ الإعلامُ على فِرار العائلات المسيحية من سيناء إلى الإسماعيلية، ووصف ذلك بالتهجير القسرى، ولم يركز على عودة عدد غير قليل من هذه العائلات إلى منازلها فى سيناء مرة أخرى بعد استقرار الأحوال الأمنية؟، لماذا لم ترافق كاميراتُ برامج التوك شو دون استثناء الفريق أول صدقى صبحى وزير الدفاع واللواء مجدى عبدالغفار وزير الداخلية عندما ذهبا إلى شمال سيناء لتفقد الحالة الأمنية لكى يرسلا رسالةً للعالم مؤداها أن مصر آمنةٌ ومستقرة وأنها تقفُ بالمرصاد للمخططاتِ الإرهابية التى تُحَاكُ ضدَها فى عَتْمَةِ الليلِ الأسود؟.
وفى الحرب ضد الفساد لماذا التركيز على الإثارةِ فقط من خلال حجم الأموال التى تم ضبطُها أو من خلال التركيز على شهرة العناصر المقبوض عليها أو من خلال نشر التفاصيل المثيرة للمكالمات الجنسية التى تتحدث عن «قميص النوم الأحمر»؟، وكأننا بصدد «صحافةٍ صفراء» أو «حمراء» أو صحافةٍ ترفعُ رايات متعددة الألوان تجعلَ الناسَ يتركون الموضوع الأصلى وهو الفساد وتُلهيهم بموضوعات وَضيعة وساقطة تخاطبُ الغرائز فى تجسيد منحط لصحافة الإثارة والصحافة الشعبية. لماذا لا يتم التركيز على الرسالة الأساسية التى يريد جهاز الرقابة الإدارية توصيلها إلى الفاسدين، وهى أنه لا نجاةَ لفاسد، وأن كلَ الفاسدين ستتمُ ملاحقتهم إلى عُقر ديارهم.
وفى الحرب من أجل التنمية التى تخوضُها الدولة رغم عِظَم ما تنفقُه فى الحرب ضد الإرهاب من الرجال والعتاد والأموال، ورغم عائدات التنمية التى تتآكل بفعل الفساد، فإننا نجد غيابًا شبهَ كامل لمفهومِ «الإعلام التنموى» الذى يسعى بكل ما لديه من طاقة للتركيز على مجهوداتِ الدولة التنموية من رصفِ طرقٍ وإنشاءِ كبارى وأنفاق وتشييدِ جسور وقناة سويس جديدة ومشروعات قومية كبرى فى كل مكان على أرض مصر. ويكتفى الإعلامُ فى أغلب الأحوال بتغطية زيارات الرئيس لهذه المشروعات دون أن يتابعَ التقدمَ الذى تُنجزهُ هذه المشروعات على أرضِ الواقع، ودون أن يحاول أن يُشرك المواطنين فى مجهوداتِ التنمية، فلا تنميةَ تنجح دون أن تتبناها جموعُ الشعب.
ولعل ما ذكرناه لا يمثل إلا جزءًا يسيرًا من تشخيص حالة الإعلام المصرى «المريض»، فهناك مشكلات أخرى يعانى منها هذا الإعلام منها على سبيل المثال الديون المتراكمة على إعلام الدولة سواء فى ماسبيرو أو الصحافة القومية، وكذلك حالة الترهل الإدارى لديناصورات إعلامية منقرضة لا تصلح فى عصر المايكرو كمبيوتر والفيمتو ثانية، والمال السياسى الذى يعبث فى بعض الوسائل الإعلامية، وسيزيدُ تأثيرُه فى الفترة القادمة مع استحقاق الانتخابات الرئاسية القادمة عام ٢٠١٨، وتلاعب الإعلام بالمِزاج العام للشعب المصرى من خلال بث الشعور باليأس والإحباطات وعدم جدوى أية سياسة إصلاحية فى مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
إن هذه هى أدواءُ الإعلام المصرى فى المشهد العام الرَاهن، أما دواءُ هذه الأدواء فنقدمُها فى روشتة فى مقالِنا القادمِ بإذن الله.. انتظرونا.