خطوات قصيرة سريعة، نمد بها البصر إلى خارج حديثنا المتواصل عن «الدولة المدنية الحديثة»، خاصة وقد بلغنا معه مرحلة ننظر فيها موقع الأمة العربية من المفهوم؛ ومن ثم لا أتصور أن جديدًا يمكن أن يفوتنا فى حركة الأنظمة العربية، وقد راحت تراوح مكانها عقودًا، فى ظل حركة إقليمية ودولية دؤوب.
لنطالع إذن «فورين آفيرز» Foreign Affairs، مجلة شهرية أمريكية، تصدر عن مجلس العلاقات الخارجية، يُعدها الباحثون خلية فكر مستقلة، شديدة الفاعلية بكل ما يدور على الساحة الدولية من تفاعلات، بعرض المساهمة فى رسم محيط السياسة الخارجية الأمريكية. وهى بذلك، كغيرها من مراكز التفكير، تشكل إحدى دوائر صناعة القرار الأمريكى فيما يتعلق بالعلاقات الخارجية.
من هنا، وعلى خلفية الزيارة المرتقبة للرئيس السيسى إلى الولايات المتحدة، رأيت أن أشير إلى تقرير أصدرته المجلة مؤخرًا، يتحدث عن الدعم اللافت الذى تلقاه مصر من القوى الكبرى بالاتحاد الأوروبى، خاصة فرنسا وألمانيا وبريطانيا، لاحظ بريطانيا لم تخرج بعد من الاتحاد الأوروبى، وخروجها لا يعبّر عن انشقاق فى كثير من المصالح، لعل أهمها ما يتعلق بالأمن.
وفى ملاحظات موجزة، يمكن رصد الملامح التالية فى تقرير «فورين آفيرز» Foreign Affairs، وما به من دلالات يمكن البناء عليها فى وضع أسس موضوعية لطبيعة الدور المصرى فى المنطقة. وعليه أشير إلى الآتى:
• يقول التقرير إن الدعم الأوروبى يشير بقوة إلى حدة الهواجس الأوروبية فيما يتعلق بالمخاطر التى تشكلها الجماعات المتطرفة، وزيادة الهجرة على الأمن الأوروبى. فيما جسّد وحدة الرؤية الأوروبية للدور المحورى المنوط بمصر النهوض به فى حوض البحر المتوسط بشكل عام.
• أشار التقرير كذلك إلى التطور الحادث فى العلاقات المصرية بحلف الناتو، الذى أقام مع مصر قنوات دبلوماسية تضمن التنسيق الكامل فيما يتعلق بالأوضاع فى ليبيا، ومكافحة الإرهاب على أراضيها، فضلًا عن خطورة ليبيا كنقطة انطلاق للهجرة غير الشرعية إلى أوروبا.
• وأوضح التقرير أن مصر هى الدولة الوحيدة فى المنطقة العربية التى تحظى باستقرار يؤهلها للنهوض بدور ملحوظ فى حفظ وتأمين الحدود الجنوبية لأوروبا. ومن ثم فإن استقرار مصر بات ضمانة حقيقية للمصالح الأوروبية، على عكس ما ترى بعض «القوى» العربية الصغيرة، التى ما زالت تراهن على زعزعة استقرار مصر.
• كثيرًا ما كان ملحوظًا فتور العلاقات المصرية-البريطانية، على عكس قوة ومتانة العلاقات بين بعض الدول العربية والدول التى مثلت استعمارًا على أراضيها، لاحظ خصوصية العلاقات الفرنسية مع لبنان والمغرب وتونس والجزائر، إلى جانب استثنائية العلاقات الإيطالية-الليبية إبان عهد الرئيس الليبى الراحل العقيد القذافى. غير أن مستجدات الأوضاع نتوقع أن تدفع بالعلاقات المصرية-البريطانية إلى آفاق أبعد، حيث سارعت بريطانيا إلى عقد مناورات مشتركة مع مصر، حضرها السفير البريطانى فى القاهرة جون كاسون، وقال عنها «إن مصر وبريطانيا فتحتا صفحة جديدة فى التاريخ العريق بين البلدين».
• إسرائيل أيضًا كانت حاضرة فى تقرير «فورين آفيرز» Foreign Affairs، فقد جاء فيه أن مسئولًا سابقًا فى الأمن القومى الإسرائيلى قال: «إن البحرية المصرية أصبحت أقوى من أى وقت مضى، حيث تمتلك البحرية المصرية أعلى تجهيز على الصعيد العالمى».
• لا يخفى التقرير أيضًا أن القاهرة ينبغى أن تستقبل الكثير من الاستثمارات الأوروبية، بغرض تقوية الاقتصاد المصرى، وهو ما سيتم عبر خطوط ثنائية، وأخرى تربط القاهرة بالاتحاد الأوروبى عامة، من خلال التوقيع المرتقب على اتفاقية بين الاتحاد الأوروبى ومصر، لتعزيز علاقة مصر بالمؤسسات الأوروبية. وهو ما يمثل تحديًا كبيرًا أمام القائمين على وضع خريطة استثمارية مصرية شديدة الوضوح والشفافية، وما ينبغى أن يرافقها من توفير مناخ جاذب للاستثمار.
• على هذا النحو يتبين أن نجاحنا فى اقتناص الفرص التى تفرزها الأوضاع الصعبة فى المنطقة، يمكن أن يغير كثيرًا من أبجديات العلاقات المصرية-الأوروبية التى طالما احتجزناها فى الإطار الضيق الذى تتيحه فرضية الانحياز الأوروبى الدائم لإسرائيل بدعم كامل من الولايات المتحدة الأمريكية. فقد باتت المصالح الأوروبية على وفاق كبير مع استقرار مصر، ودعمها سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا.
• تجاوبًا مع الحقائق التى جاءت فى تقرير «فورين آفيرز» Foreign Affairs، لنكف إذن عن حديث المظلومية الدامى، ولنلقى وراء ظهورنا خطاب المؤامرة البائس؛ إذ ليس إلا على هدى من المصالح المشتركة تتأسس العلاقات الدولية المعاصرة.
• ليس من المتوقع أن يخرج الرئيس الأمريكى «دونالد ترامب» عن الإجماع الأوروبى على أهمية استقرار مصر ونمو نفوذها، باعتبارها دولة محورية فى المنطقة لا يمكن تجاوزها دون كُلفة كبيرة. غير أن توقعات وردية مبالغ فيها يمكن أن تسحب من رصيد الزيارة المرتقبة للرئيس السيسى إلى واشنطن؛ فليس من شك أن الرؤى المصرية-الأمريكية غير متوافقة فى عدد من الملفات، أبرزها بالقطع الصراع العربي-الإسرائيلى.
• أشرنا بسعادة إلى ما جلبه علينا نشاط الدور المصرى على الساحة الليبية، وما يعول عليه أوروبيًا من حيوية تُعلى من شأن الدور الإقليمى لمصر. إلا أن شفافية واجبة مع النفس، بموجبها ينبغى أن نشير إلى ضعف الدور المصرى فى الملفين اليمنى والسورى على السواء؛ إذ لا يكفى أن ترفض مصر الانسياق إلى حرب برية فى اليمن، ولا يكفى أن يعتدل الموقف المصرى فنرفض أن يكون إسقاط بشار الأسد هدفًا أوليًا. ذلك أن لمصر مصالح واسعة لها أن تفرض علينا تدفقًا أفضل فى جميع المسارات الإقليمية.
كذلك فإن قصورًا باديًا بوضوح فى العمل على استفاقة حقيقية للعلاقات المصرية-الإيرانية، بها تزداد الأوراق فى يد صانع القرار المصرى على الساحتين الإقليمية والدولية. دونما أى تردد، بات مهينًا، خشية أى تأثيرات سلبية على العلاقات المصرية-الخليجية، أو فلنقل المصرية-السعودية بتعبير أدق. فهل نفعل ونخطو بقوة فى عمق الملفات اليمنية والسورية والإيرانية؟! سنفعل بالقطع لو كنا قد استوعبنا درس تقرير «فورين آفيرز» Foreign Affairs.