الإثنين 25 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

ورحل فارس البحث عن الحقيقة

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
... لقد ترجَّل الفارس عن جواده ورحل 
فاضت روحه إلى بارئها سبحانه وتعالى، جف القلم، وطويت صفحات الكتب، ورحل عن دنيانا المفكر والعالم الأستاذ السيد يسين، ذلك الرجل الذى كتب سطور حياته بفكره وقلمه، وستظل ذكراه تتردد بين تلاميذه وبين كل الباحثين عن الحقيقة وعن مستقبل أفضل.
رحل المفكر الأستاذ السيد يسين عن عالمنا بعد رحلة طويلة فى البحث عن الحقيقة وتقصى صور المستقبل. وبينما رحل جسده عن عالمنا، فإن أفكاره لا تزال وستظل تعيش بيننا لفترة طويلة من الوقت، فقد كان رحمه الله باحثًا وفيًا وعالمًا متواضعًا، عاش حياته أبىَّ النفس، عفيف اللسان، طيب القلب. عاش السيد يسين الإنسان حياته كلها خادمًا وفيًا للسيد يسين العالم والمفكر، لم يتطاول على العلم، وإنما ظل تلميذًا مخلصًا باحثًا عن الحقيقة. لم يتربح من مركزه العلمى، ولم ينضم إلى شلل الطبالين والزمارين، لأن ذلك لا يتفق مع يقينه المخلص النقى الرافض للنفاق والطنطنة. ظل السيد يسين حتى أيامه الأخيرة تلميذًا فى محراب العلم والبحث عن الحقيقة. وقبل دخوله المستشفى بأيام قليلة كنا نتحدث معًا عن أفكاره المستقبلية عن «الدولة التنموية» وأهمية تعريف دورها وحدود هذا الدور، وضرورة تمييزه عن دور ما كان يسمى الدولة المتدخلة فى ستينيات القرن الماضى. وكنا نتحدث عن ضرورة أن تقوم عملية صنع السياسة فى مصر على أسس خرائط معرفية دقيقة ومنضبطة، لأنه بغير تلك الخرائط المعرفية فى جميع المجالات تكون عملية صنع السياسة ضربًا من العبث. كان السيد يسين، وهو فى الرمق الأخير، مشغولًا بمستقبل هذا البلد الذى احتضنه وأحبه بقوة حتى الممات.
وليس بمقدورى أن أكتب كلمة فى رثاء أستاذ لى وصاحب فضل، فهذا صعب على النفس أشد الصعوبة، ولا يستطيع العقل مهما كانت حكمته فى لحظات الرثاء، أن يمسك بتلابيب الأفكار التى تتوه وسط زحام الذكريات ومرارة الشعور بالفراق. كان الأستاذ السيد يسين أستاذًا لى فى بداية مشوار حياتى العملية فى مصر، وحذّرنى من السفر عندما ضاقت بى السبل ورحت أسعى لهجرة قصيرة. ومع ذلك فقد احترم رغبتى فى السفر واستمرت مراسلاتنا سنوات وسنوات. التقينا فى لندن، حيث كنت أعمل أنا عندما كان يجيئ للزيارة أو للمشاركة فى بعض الأنشطة الثقافية مع الجالية المصرية فى بريطانيا. وكنا نتراسل على الدوام ونتشارك فى مناقشة الكثير من الأفكار ومن التطورات. وكانت نصائحه لى ولكل تلامذته نصائح مخلصة وطيبة نابعة من محبة حقيقية.
كان الأستاذ السيد يسين يقرأ بعقل متجدد، لم يتحجر ولم ينغلق فكره على نظرية من النظريات. لم يتقوقع داخل مدرسة فكرية معينة، وإنما جعل اللهث وراء الحقيقة مذهبًا لحياته، وجعل البحث عن تصورات لمستقبل أفضل لأمته هدفًا يجعل لحياته معنى جديدًا كل يوم. انشغل بالمعاصرة والحداثة وبما بعد الحداثة. انشغل بقضايا مجتمع المعرفة وبالخرائط المعرفية التى من شأنها أن تمنح الباحث والسياسى، سواء بسواء، أضواء الهداية إلى الطريق الأفضل. وكان المفكر العظيم يتابع كل جديد، ويقرأ بنهم ويفهم ويناقش ويستمع، بل ويحسن الاستماع، بما فى ذلك الاستماع إلى تلاميذه، الذين يشارك فى توجيههم. لم يكن السيد يسين متكبرًا فى العلم، وإنما جعل تواضعه مثلًا لنا جميعًا ونموذجًا نهتدى به فى العمل. لم يكن أستاذنا مثل بعض هؤلاء المتأنقين الذين يستأجرون أو يسخرون تحت أيديهم من يقرأ لهم، ومن يكتب لهم، معاذ الله. وإنما كان يفرح فرحًا جمًا بتقديم ما يعرف من معلومات إلى من يريدها أو من يهتم بها. 
ولذلك فقد كنا نحن الخبراء والباحثين الذين عملنا معه، سواء فى مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية فى الأهرام، أو فى المركز العربى للبحوث والدراسات، نشعر دائمًا أنه ليس «المدير» وإنما هو «واحد منا». الأكثر من ذلك أنه كان عندما يعرف ولع واحد منا ببعض الموضوعات الجديدة، يجلس بنفسه للبحث فى شبكة المعلومات الدولية عما يمكن أن يفيد فى ذلك الموضوع، ثم يقوم بطبعه وتجهيزه وإهدائه إلى صاحب الشأن، فخورا بأنه يمارس، وهو الأستاذ والمفكر، دور «مساعد الباحث»، كما كان يحلو له دائمًا أن يقول، فما أروع الأستاذ، وما أروع النموذج!
وكان من ملامح عظمة الأستاذ السيد يسين قدرته العميقة على التأليف الخلاق بين أفكار بسيطة والانطلاق منها إلى حقائق معممة. وكان خلال مناقشاته يقترب من الأفكار المختلفة لبناء جسور للتواصل بين حقائق العلوم المختلفة؛ فكان يبحر بنا فى مناقشاته العميقة من بحور القانون إلى بحور الفلسفة، والسياسة والتاريخ والاقتصاد والثقافة بمعناها المعرفى الواسع. كانت قدرته على الإحاطة بكيفية الربط وبناء الجسور بين العلوم الإنسانية المختلفة محل إعجاب من كل تلاميذه ورواده. وكانت هذه القدرة على التأليف الخلاق بين الأفكار والربط بين معطيات العلوم المختلفة عبر جسور نابضة بالحياة مفتاحًا من مفاتيح مدرسة السيد يسين الفكرية؛ فأنت عندما تجلس للنقاش معه، عليك أن تكون متسلحًا بمعرفة أكثر من علم. ولهذا فإن السيد يسين نجح فى أن يصبح مفكرًا عميق المعرفة فى علوم القانون والفلسفة والاجتماع والسياسة والاقتصاد، من خلال نظرة معرفية موسوعية قلّ أن تجد فى مصر من يضاهيه فيها.
الآن وقد غادر الأستاذ المتواضع دنيانا، فقد ترك على رؤوسنا عبئًا ثقيلًا بأن نواصل ما كان يعمل من أجله السيد يسين، وأن نتبع الطريق المستقيم الذى مشى فيه قبلنا. كان السيد يسين يحمل فى قلبه ووجدانه مشروعًا تنويريًا عصريًا للمستقبل، ومن واجب كل تلاميذه أن يحملوا من بعده هذا المشروع التنويرى النهضوى الذى يتطلع إلى مستقبل أفضل لهذا البلد. وعلينا قبل كل شىء أن نقتدى بمسلكه وبأخلاقه فى طلب العلم، واللهث وراء الحقيقة. إن هذا الرجل يستحق منا أن نرد إليه بعض ما قدمه إلينا، وسوف يكون ذلك باستكمال رسالته، والانحياز إلى من انحاز إليهم عن قناعة. مشروع السيد يسين التنويرى النهضوى يجب أن يستمر، وفى هذا سيكون أعظم تكريم لهذا الرجل العظيم صاحب النفس الأبية والعقل المتفتح والنظرة المنفتحة على المستقبل.