ترتبط أمى لدىَّ بـ«الجناين».. لا أنسى أبدًا الجناين الواسعة بارعة الجمال، الممتلئة بأنواع كثيرة مدهشة من الزهور، وأيضًا الفواكه (مثل المانجو)، التى رأيتها معها وأنا طفل لم أزل فى الخامسة من العمر.. استضافتنا فيها، أمى وإخوتى وأنا، جارتنا «ضحى»، حيث مزرعة (أو عزبة) عائلتها، كانت ضحى تسكن فى الشقة التى فوقنا، فى العمارة التى كنا نسكن فيها وقتذاك، أمام نيل مدينة دمياط.. وعلى مقربة منا مباشرة (الجمارك التى لم تعد حاليًا فى نفس المكان، وكنت وقتها أعتبرها بجد «نهاية أو آخر العالم»!).
وعلى الضفة الأخرى من النيل عمل أبى، مهندسًا كما أنه موظف يعود إلينا بعد عمله ومعه بانتظام جريدة «الأهرام».. كنا نطلق على العمارة اسم «بيت البقرى»، نسبة إلى صاحب البيت، الذى لم أره قط.. كنت على وشك أن أدخل المدرسة الابتدائية (مدرسة النصر)، وكنت أعرفها جيدًا، إذ يعمل خالى الوحيد مدرسًا للعلوم بها، وكان يصحبنى إليها مرارًا، فلم أفاجأ بشىء حين ذهبت إليها لأول مرة، كنت صديقًا للمدرسين والتلامذة قبل أن ألتحق بالمدرسة...
كان أبى، بحكم ذلك الأوان وطبيعة عمله، ينتقل كثيرًا ونحن معه من مدينة إلى أخرى، وفى بعض المدن كنا نسكن فى أكثر من شقة، فقد كان إيجاد الشقق أمرًا ميسرًا باستمرار، وإذا وجد أبى شقة أحسن انتقل إليها، لكنى لا أنسى أيضًا جناين وزهور «عم عبدالصبور» بستانى مدرستى «النصر»، قبل أن نغادر دمياط (مدينة مولدى وكل إخوتى ومدينة أمى، بينما أبى من المنصورة)...
وقد علمتنى ربما «جناين طنط ضحى» حب الزهور والبساتين، فتعلقت بزهور المدرسة، ودخلت فى حوار باستمرار مع «عم عبدالصبور» حول أنواع وأسماء الزهور التى أراها وتملأ أنفاسى، بل وروحى، بهجتها وعطورها الآسرة، وفى مرة وجدتنى أتفق معه على أن يأتى إلينا بالشقة، بباقة من هذه الزهور، فى يوم الإجازة الجمعة، وقد وجد عنوان البيت الذى وصفته له سهلًا (آخر بيت على النيل فى دمياط قبل الجمرك أول بلكونة!).. فوجئ أبى وأمى وإخوتى، الذين يصغروننى هم الثلاثة (بين كل منا والآخر سنتين) بالبستانى الطيب الودود، بملامحه المصرية العريقة يطرق الباب، ومعه باقة خلابة من الورد، وأشكال متنوعة من ألوان وعبير الزهور والرياحين.. تقبلها الأبوان من عم عبدالصبور شاكرين، وبالطبع مع مبلغ من المال، امتنانًا لتصرفه ومشواره.. وقد وضعت أمى الزهور فى موضع يليق بها، وماء تحيا به، لكن ظلت وأبى ينظران لى بعدها نظرة.. ويقولان تعليقات: مزيج من العتاب للمفاجأة بغير أن أخبر بشىء قبلها.. ومن الرضا والاعتداد بالتصرف، والابتهاج بالباقة الرائعة.
لكن على الرغم من مغادرتنا دمياط، إلى مدن أخرى، ظل أبى حريصًا على أن يأخذنا إلى مصيفها الأثير المتميز، ذى العبق والطابع الخاص والأثر الفريد فى نفوسنا «رأس البر»، ولا يزال هذا الأثر لدىّ وإخوتى، وتوارثه أبناؤنا، مهما مرت السنوات، وأيًا كان ما نشاهد ونعرف من مصايف... باستثناء الفترة التى أخذنا فيها أبى لنقيم فى مدينة دمنهور، حيث عرفنا الإسكندرية التى كانت أقرب إلينا.. ومن وقتها، وكنت ما بين الثامنة والتاسعة (بمدرسة الحرية بدمنهور)، وقعت فى عشق وهوى الإسكندرية، ولا تزال وستظل مدينتى الأجمل المحببة والمفضلة، ليس كمصيف فحسب. ترتبط أمى لدىّ بـ«الجناين».. لا أنسى أبدًا «جناين» كانت تأخذنا إليها.. أنا وإخوتى، سواء فى حياة أبى أو بعد رحيله المفاجئ، القاسى القاصم، فى مطالع الخمسينيات من عمره.
كانت أمى تأخذنا، خاصة فى «شم النسيم» من كل عام، إلى «جناين» بأسفل الكوبرى الذى يمر من فوقه القطار، ويربط ما بين مدينة المنصورة حيث كنا نسكن على مقربة، ومدينة طلخا، كان الكوبرى فوق النيل ومن فوقه تمر القطارات، ولا يزال لكن الذى كان ولم يعد، جناين (ناحية طلخا) يزرعها بستانى طيب، (وجهه مصرى كبير فى السن، به قسمات وسامة لفلاح ودود شديد الطيبة، العجيب أننى أراه دومًا يشبه عم عبدالصبور بستانى مدرسة النصر)، كنا نفرح ونمرح أنا وإخوتى فى بستان طلخا تحت الكوبرى، وتشترى منه أمى «الخس» وخضراوات أخرى.. وأكثر ما كان يفرحنا، حتى أكثر من أن نأكل، منظر المزروعات وهى تنبت وتطلع، وتملأ الأرض.. كم أحببنا هذا وخلبنا..
كما كانت فسحة أمى، وحتى تبهجنا، كلما أتيح وقت، الذهاب إلى جناين مدينة المنصورة، كانت الأرملة المكافحة الرائعة، الرقيقة العاطفية جدًا، بقدر ما هى صلبة صعبة المراس، تحاول أن نجد كل احتياجاتنا وأيضًا أن تسرى عنا، وقد تركنا الوالد بغتة، بينما الأبناء الأربعة (أنا وأختى التى تصغرنى مباشرة «أميرة» ثم «علوى» و«عمرو») لا نزال جميعًا فى مراحل دراسية، واللافت أنه على الرغم من حياء أمى، فإنها كانت اجتماعية، ومرات عدة ونحن فى جناين مدينة المنصورة كنا نجمع بين البهجة والفسحة، وتتعرف أمى على صديقة جديدة، وأسرة لا نلبث أن نشعر أنها بالفعل قريبة منا، ونتبادل معها الزيارات..
وما أكثر «جناين المنصورة» وقتها.. من جنينة على مقربة منا ومن مبنى قصر الثقافة الضخم المتميز على النيل.. إلى «جنينة شجرة الدر» التى كانت بعيدة بعض الشىء ولم تعد موجودة الآن..
أما المشوار الذى كان يمثل لى ذروة المتعة آنذاك، ولا أزال أتذكره بل ويخفف عنى حتى بمجرد تذكره الكثير مما نعانى منه حاليًا فى الحياة، ولدرجة ظهوره فى أحلام منامى مرارًا.. تلك التمشية المسائية الجميلة، التى كانت تصحبنا فيها أمى، عبر أكثر شوارع مدينة المنصورة حيوية (السكة الجديدة)، (وحيث كنا نقيم قرب بدايته من ناحية ميدان محطة السكة الحديد وقصر ثقافة المنصورة)، لتشترى لوازم أو احتياجات ما.. وكان من بين ذلك أحيانًا محل صغير لكن عليه زحام، وزبائن دائمين، (محل خردوات حتى أنه لا يزال لهذه التسمية والمهنة وقع خاص لطيف فى نفسي)، تشترى منه عطورًا أو «كلف» أو ملابس لنا.. إلخ. ثم نصل إلى قرب نهاية «السكة الجديدة» إلى محل «باتا» لنشترى، عند احتياجنا، حذاء، أو فى الصيف «صندل»، لكن نصل دائمًا إلى ذروة الفرحة والمتعة، بمحل واسع عميق، تشترى لنا منه آيس كريم اسمه محل «تريانو»، ويبدو واضحًا أنه أصلًا لخواجة ويبدو أنه من أصل يونانى.. نعم.. أظل وعلى مدى حياتى، لم أتناول قط آيس كريم أجمل وألذ من هذا، وكانت بسكوتة الآيس كريم تتشكل من كل الأنواع معًا (مانجو حليب فراولة ليمون شيكولاتة)، وكنت متذوقًا لها كلها، ولو أن لى محبة خاصة للشيكولاتة فى كل شىء أينما وجدت!.. بينما أذكر أن أمى كان لها تفضيل خاص فى الآيس كريم «الليمون».. وأظل من وقتها عاشقًا للآيس كريم، ومحبًا «للسكة الجديدة»، ومرتاحًا «لليونانيين»، وحالمًا بهذا المشوار الجميل مع أمى.. وحيث آخر السكة الجديدة والمذاق الخاص العذب لكل شئ.. وليس فحسب الآيس كريم. وحينما أقوم من حلم المنام، وحتى الآن.. وفى حلقى وحلمى ومذاقى.. لذة تلك المرحلة.. أو رحلاتى الكثيرة مع أمى.. وجناين أمى: أنهض مبتهجًا سعيدًا غاية فى الحيوية والهمة، وأنجز كل ما يتعين على أن أنجزه بمقدرة، بل وبسرعة واضحة غير معتادة.. أنا الذى يقال عنى عادة، من جهة الذين يعرفوننى.. (المتمهل!)..
لكن تأتى السرعة، وتصاحب حالات، أولها ما ذكرت!.. خلال سردى ومضات، روايتى قبسًا.. من رحلات أمى.. ورحلاتى أنا وأخوتى وأسرتى مع أمى وأبى..
و«جناين أمى».
نعم. ترتبط أمى لدى بـ«الجناين».
وبـ«الجنة» أيضًا.