تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
[email protected]
ظلم البشر لبعضهم البعض لم ينقطع منذ كانت البشرية. لم يخل العالم قط من المحرومين المظلومين. وتشير دراسات علم النفس الاجتماعي إلى أن الحرمان في حد ذاته قد لا يعني شيئًا بالنسبة للمحروم.
من المحرومين من لا يعرفون أنهم كذلك، ويظنون أنهم مثل غيرهم من البشر، أو أن الفروق بينهم وبين غيرهم فروق طفيفة لا تمس الجوهر.
ومن المحرومين من يعرفون أنهم كذلك، ولكن ألقي في روعهم أن تلك هي سنة الحياة؛ ومن ثم فإن التمرد على أوضاعهم لا طائل وراءه سوى الشقاء في الدنيا والعذاب في الآخرة، و أنه لا سبيل سوى الاستسلام بل والرضا.
وتبدأ المشكلة مع اكتشاف المحروم أن ظلمًا قد وقع عليه، وهو لا يكتشف ذلك إلا عن سبيل أمرين متكاملين:
الأمر الأول هو مقارنة أحواله بأحوال أقرانه من بني البشر.
الأمر الثاني أن يطرح على نفسه وعلى الآخرين ذلك السؤال الخالد: “,”لماذا أنا هكذا؟“,”. حينئذ يبدأ ما يمكن أن نسميه الوعي بالحرمان.
وتشير دراسات علم النفس الاجتماعي في هذا الصدد إلى ما يسمى بنظرية الحرمان النسبي، وهي نظرية مضى على صياغتها ما يزيد عن نصف القرن، وما زالت الأدلة المدعمة لها قائمة. وتقوم النظرية على أن رضا الفرد عن أوضاعه، أو ضيقه بتلك الأوضاع، لا يتوقف على المستوى الموضوعي للحرمان أو للفجوة بينه وبين الآخرين، بل إنه يرجع إلى الفارق بين حجم ما يحصل عليه الفرد موضوعيًّا والمستوى الذي يرى أنه يستحقه أو يتوقعه.
وقد أورد أحد علماء النفس الاجتماعي مثالاً يوضح المقصود بالحرمان النسبي: إن قبيلة الصيد أو الرعي قد تمضي أيامًا لا تجد طعامًا، ومع ذلك لا يحس أفرادها إلا بقدر ضئيل من الحرمان النسبي؛ إذ أنهم لا يتوقعون -في مثل ظروفهم- الحصول على مزيد من الطعام، فضلاً عن شعورهم بأنهم جميعًا يعانون على قدم المساواة؛ ومن ثم فإنه لا يوجد من أبناء القبيلة من يعتبرونه مسئولاً عن حرمانهم.
ومن ناحية أخرى فإن صاحب الملايين العديدة إذا ما فقد جانبًا كبيرًا من ثروته، ولم يبق له سوى ملايين قليلة، قد يشعر بقدر هائل من الحرمان النسبي.
وقد ربط بعض علماء النفس الاجتماعي بين الاضطرابات السياسية والاجتماعية الداخلية وظاهرة الحرمان النسبي، أي اتساع الفجوة بين ارتفاع مستوى الطموح المصاحب للتقدم الاجتماعي وانتشار الثقافة والتعليم، وبين مؤشرات الواقع الاجتماعي الفعلي، كالدخل القومي العام، وعدد الصحف، وأجهزة الراديو، وعدد السعرات الحرارية التي يستهلكها الفرد، إلى آخره. الأمر يتوقف إذن على “,” درجة الوعي بالحرمان“,”.. وعي المحرومين بحرمانهم.
ويلعب الانفجار الإعلامي الذي يشهده عصرنا دورًا مركبًا بالغ التعقيد في هذا المجال؛ فهو من ناحية قد يزيد من وعي المحرومين بحرمانهم؛ بإتاحته لهم رؤية غيرهم ممن ينعمون بحياة مترفة، ومن ناحية أخرى فإنه قد يلعب دورًا في تزييف وعي المحرومين وتخديرهم، فضلاً عن أنه قد يلعب أحيانًا دورًا في تبصير المحرومين بوسائل يمارسها أمثالهم للتخلص من حرمانهم. الأمر يتوقف في النهاية على مضمون المادة الإعلامية.
ولكن ثمة حقيقة لا سبيل إلى إنكارها. إن الإعلام مهما بلغت قوة تأثيره ليس بالعامل الوحيد في هذا المجال، بل تشاركه -وقد تفوقه تأثيرًا- مؤسسات اجتماعية أخرى قد تكون أشد خطرًا، وعلى رأسها الأسرة والمدرسة؛ حيث يتلقى الطفل منذ فجر طفولته تدريبًا مكثفًا على أساسيات مواجهة الوعي بالظلم أو الحرمان، سواء من موقع المحروم أو من موقع المتهم بالظلم.