السبت 23 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

ملفات خاصة

"محل الميلاد: زنزانة ".. من سجن "هشارون" فاطمة الزق: قالوا لي "إرهابية ستلد إرهابيًّا"

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
بابتسامة يملأها المكر قال لها: "أنا هنا لاستقبالك، تركت زوجتى وأبنائي منذ الصباح الباكر لأنتظرك بنفسي"، تلك الكلمات قالها الضابط الإسرئيلي لفاطمة الزق التى نظرت له مبتسمة، وتيقنت أن أحدهم قد وشى بها، والآن إما السجن المؤبد أو الإعدام، من هنا بدأت القصة التى ترويها لنا الأسيرة المحررة فاطمة الزق في عيد الأم عن تجربة ولادتها داخل السجن ضمن ملف "محل الميلاد: زنزانة".
فاطمة يونس الزق "أم محمود" من مواليد غزة 30-11-1968م، متزوجة ولها 9 من الأبناء، أصغرهم يوسف الذي ولد داخل السجون الإسرائيلية، كانت قبل الاعتقال تعمل مسئولة في حركة الجهاد الإسلامي، تولت من خلاله ملف العمل النسائي وكانت داعية ومحفظة لكتاب الله في مساجد غزة.
اعتقلت بتاريخ 20 – 5-2007، واتهمت بأنها كانت تنوي تنفيذ عملية استشهادية في الأراضي المحتلة، وقد تحررت في صفقة الحرائر التي كانت مقابل "شريط عن شاليط".
آلام المخاض تزداد بشدة، ترقد فاطمة على السرير تنتظر فرج ربها ليخرج طفلها للنور، مع كل طلقة للولادة تتذكر فاطمة حياتها ومعاناتها طيلة فترة الحمل، تنظر لهم وهيا ترتجف تطلب منهم أن يعطوها أى شيء يدفئ جسدها من البرد القارص، ولكن المجندات يرفضن، بل يسخرن منها وهي فى حالتها.
تنظر لها إحدى المجندات قائلة: "أنت لا تستحقين شيئا، فأنت إرهابيه وستلدين الآن إرهابيا مثلك"، تنظر فاطمة إلى السماء وتتذكر مشهد القبض عليها وكأنه يحدث الآن.
المشهد الأول "عملية انتحارية"
مشهد الاستشهادية "سناء المحيدلى" ابنة الـ17 عامًا وعمليتها الانتحارية فى جنوب لبنان، والتى نفذتها ضد جنود الاحتلال بتفجير سيارتها فيهم يوم 9 /4 / 1985، والتى كانت أول عملية من نوعها بجنوب لبنان، والتى سميت بعملية "عروس الجنوب"، بات هو المثل الأعلى، والملهم الأكبر للطفلة فاطمة الزق، منذ ذلك اليوم وأصبحت تحلم بأن تصبح مثلها، صولات وجولات باتت بينها وبين جنود الاحتلال مما اضطر أبوها إلى منعها من استكمال دراستها وتزويجها مبكرا خوفا عليها من الاعتقال، ورغم ذلك اعتقلت وأكملت تعليمها الثانوي داخل السجن.
الآن وبعد أن أصبحت فاطمة امرأة يافعة تملك من الأبناء ثمانية، شعرت بأن الوقت قد حان لتحقيق حلمها، وفى يوم العشرين من مايو عام 2007 خرجت من بيتها ولم تخبر أحدا حتى ابنها الصغير سليمان، والذى كان وقتها فى الثالثة والنصف من عمره، لم تنظر له مخافة أن يأخذها به عاطفة الأمومة فترجع عن حلمها، كانت برفقتها ابنة أخيها "روضة" والتى ستقوم هيا الأخرى بعملية انتحارية بجانب عملية الزق، وكانا يحملان معهما شهادات صحية مزورة كي تستطيع كلا منهم أن تعبر بها من غزة إلى الضفة الغربية وبذلك تمر داخل المناطق المحتلة وتنفذ عمليتها، فعلى معبر بيت حانون كان من المفترض أن تقوم فاطمة الزق بتفجير نفسها فى حافلة لجنود الاحتلال بتل أبيب، بعد دراسات وخطة وضعت بصوره كاملة عن مواعيد تحركات الباص والجنود بالمعبر، تحركت فاطمة باتجاه الممر الأمنى وعلى عكس المعتاد وجدته خاليا حتى من الجنود العاديين، شيء ما بداخلها أربكها أن هناك خطأ ما حدث، وتقول فى قرارة نفسها: "إن قتلونى فقتلى شهادة، وإن سجنونى فسجنى خلوة، وإن نفونى فإن نفي سياحة"، لم تتراجع وأكملت طريقها رغم أنها تعلم أن هناك خطرا ما، فجأه خرج لها صوت الضابط الإسرائيلي عبر مكبرات الصوت، وهو يأمرها بتفريغ حقيبتها وإزالة كل أغراضها وبابتسامة قال لها "ملامحك تشبهنا لذلك اختاروك أنت"، وقتها علمت فاطمة أن أحدهم قد خان العهد، وأبلغ عنها، وصدر بحقها حكم 12 عاما.

المشهد الثانى "اكتشاف الحمل"
لم تكن فاطمة تعلم أنها حامل فى جنين يبلغ من العمر شهرا، ولعلها لو كانت تعلم كانت المجريات كلها تغيرت من البداية، ولكنها إرادة القدر، نقلت فاطمة لمركز التحقيق، والذي مورست فيه ضدها أبشع أنواع التعذيب رغم أنهم يعلمون جيدا أنها حامل، ولكن رغم قساوة هذا العذاب استطاعت فاطمة أن تقهرهم بتجاهلهم حتى وهم يعذبونها، وبدأت فى استخدام أشد الأسلحة التى تخشاها إدارة السجون الإسرائيلية وهى الإضراب عن الطعام، وكان الضابط الرئيسي والمنوط به التحقيق معها كان عراقي الأصل، وقال لها "برافو فاطمة لقد اختاروك لأنك تشبهيننا هل تعلمين أنني أنتظرك منذ أسبوع على أحر من الجمر؟!"، وقتها تأكدت فاطمة أن هناك من أبلغ عنها.
باتت جدران سجن عسقلان شاهدة حتى الآن على ما تم فى حقها، محاولات للإجهاض لا تعد ولا تحصى، ضرب وتنكيل لساعات طويلة، وحبسها فى زنازين يصعب الجلوس فيها لدقيقة واحدة كما قاموا بزرع عميلة معها فى الزنازانة لعلها تعترف لها بأى شيء، ولكن دون جدوى، وهو ما جعل الأمر يصل إلى حد الصعق بالكهرباء انتقاما من صمتها ورفضها الإدلاء بأى اعتراف أو معلومة عن العملية ومن وراءها، لينتهى بها الأمر إلى نزيف شديد أصبح يشكل خطرا كبيرا على الجنين.
المشهد الثالث "أشهر الحمل في الزنازنة"
بعد أسبوع واحد في زنزانة الموت، زارها المحامي والصليب الأحمر، فطلبت منهما تحويلها إلى المسشفى لسوء حالتها وضعفها جراء التعذيب، وقد نجح المحامى فى كسب قضية نقلها أمام المحكمة العليا بالقدس ليتم نقلها إلى سجن هشارون للنساء.
الوضع كما هو لا شيء يختلف سوى فقط غياب التعذيب الجسدي، إهمال وحرمان من الرعاية الصحية والتغذية الجيدة، واقتحام للزنازين من قبل مجندات الاحتلال للتنغيص على الأسيرات حياتهم.
المشهد الرابع "إجهاض متعمد"
حاولوا مررار وتكرارا أن يجهوضها وهنا بدأت فاطمة تخوض معركة أخرى ضدهم للحفاظ على جنينها، فبعد أن علموا أن التعذيب لم يجهضها بدءوا فى التحايل بصورة أخرى، فقد جاءت لها إحدى السجانات وطلبت منها أن تأخذ حبوب مؤكدة لها أنها مقدمة لها من عيادة السجن ولكن حذرتها إحدى الأسيرات من تناولها لأنها مجهولة الهوية، وغير مدون عليها أى شيء عن طبيعتها، بعدها بأيام فوجئت باستدعائها لعمل فحوصات طبية فى وقت غير المعتاد لتجد فى استقابلها دكتور العيادة ليخبرها بأنه سيجري لها فحص ماء الرأس للجنين باستخدام إبرة معدنية تدخل من عنق الرحم، ولكنا رفضت لشك ما بداخلها وقالت له "لقد أنجبت ثمانية أطفال قبل جنيني هذا ولم أقم بمثل تلك الفحوصات من قبل".
وبعدها فوجئت بقوة من الحراس والسجانات تقتحم زنزانتها وتطلب منها التوقيع على ورقة تفيد برفضها التوجه إلى المستشفى في حال حدوث أي مضاعفات لها، رفضت وطلبت حضور ممثلة الأسرى، والتى علمت أن هذه الورقة فخ لتبرئة الاحتلال من أى شيء يحدث لها من مكر كانوا يحضرونه لإجهاضها.
المشهد الخامس "لحظة الولادة"
مرتان تتناوب فيهما الأسيره فاطمة الزق إلى المشفى لتضع مولودها ولكن لم يحن الوقت بعد، كبلوها بالحديد فى كل مرة وكانوا يقيدونها على السرير تحت حراسة مشددة رغم أنها فى حالة لا تستطيع فيها حتى الحراك وهم يعلمون جيدا أنها لا تسطيع أن تهرب فأسوار السجن عالية، وهي الآن أسيرة لمخاضها ولكن كانت السلاسل نوعا من أنواع الإذلال.
17/1/2008 كان اليوم الحاسم وفى مشفى مائي بكفار سابا وهو نفس المكان الذى شهد على ولادة أيضا الأسيرة سمر صبيح كان أيضا شاهدًا على ولادة "يوسف" اسمته بهذا الاسم نسبة لسيدنا يوسف الصديق عليه السلام بسبب سجنه، خرج صراخ طفلها فى وجوههم ليعلن انتصار أمه على ما لاقته من إهانة طيلة فترة حملها خصوصا أثناء الولادة.
ثلاثة أيام تعيشها الزق بلا أى رحمة، إهانة وتقييد مستمر فى السرير، محاولاتها للتفاوض معهم فشلت، طلبت منهم أن يفكو قيدها ولو لدقائق ولكنهم رفضوا، ورغم شدة البروده قاموا بفتح المكيفات فى الغرفة وحرموها من ارتداء ملابسها الثقيلة، لم تجد فاطمة سوى أن تنظر للسماء وتقول "فوضت أمرى لك رب".

المشهد السادس "الأسير الصغير يوسف وزنزانته الجديدة"
يشاء الله أن يبصر يوسف أول أيام حياته فى زنزانة النساء بسجن هشارون، تقف الأسيرات فى استقبال "أم يوسف"، بالزغاريد والطبل كل منهم تتهافت لحمل الرضيع واللعب معه، سنوات عجاف لم يروا فيها أي جديد، والآن امتلأت أيامهم بالخير بقدوم المولود الجديد، والذى كانوا له جميعهن أمهات.
يوما عن يوم والطفل يكبر، يلعب معهم ويضحك وهو لا يدرى أنه يهون عليهم عذابات السجن وسجانيه، كان ينادى كلا منهم بـ"ماما" وخصوصا الأسيرة لينا الجربونى، والتى ما زالت أسيرة حتى كتابتنا لتلك الكلمات، ومن المقدر أن تخرج من الأسر بعد أيام بعد أن قضت حوالى 15 عاما فى الأسر، والملقبة بعميدة الأسيرات.
ما زال يوسف رغم خروجه من السجن وكبره يتذكرها ويتعلق بها وسؤاله عنها لا ينقطع يوميًّا، فكانت أكثرهن حنانا عليه، ولأنها لم تتزوج بسبب الأسر كانت ترى فى نفسها شيئا من الحنين للأمومة فكانت تحمله دائما وتقول له "هل سأخرج وأتحرر ويكون لي بيت وأطفال مثلك؟"، كلمات رغم وجعها كانت تقولوها وهيا تبتسم.
المشهد السابع "عدد" كانت الكلمة الأولى التى نطقها قبل ماما:
بغير رحمة أو شفقة تعاملوا مع الرضيع وكأنه أسير، حرمان من الحليب والتنزه حتى ألعابه دخلت له بعد صولات وجولات فى المحاكم فى قضية رفعها الأسيرات بسجن هداريم ضد إدارة مصلحة السجون لتحكم المحكمة فى النهاية لصالح الطفل، وتدخل له ألعابه فى تلموند بسجن هشارون، ولعل من المضحك المبكي كان أول كلمة نطقها يوسف كانت عدد وذلك لكثرة ما كان يسمعها من السجانات فى الصباح والمساء حين يعدون الأسيرات فكانوا يقولون "عدد" أى سنبدأ فى عدكن.
المشهد الثامن "بكاء على آلام الرضيع وشماتة السجان:
ولعل من أكثر المواقف صعوبة على آلام أن تقف مكتوفة الأيدي أمام آلام رضيعها، حرموا طفلها من اللبن، وأخبروها أنه لم يعد يصنع فى المصانع، وكانت تلك حجة لأن اللبن ثمنه غالٍ جدا، وبات لبنها لا يكفي الرضيع ليزداد بكاؤه متضورا من الجوع، جن عقلها وانفطر قلبها ولم تعد تعرف كيف تتصرف، فقامت بتفتيت الخبز الذى كانت تأكله لقطع لفتات صغيرة جدا ومزجه بلبن صدرها، وبدأت تطعمه منه لعلها تسد جوعه، ولكن زاد الأمر سوءا بتخمر ذلك فى معدته التى ما زالت ضعيفة، وهو ما جعله يمرض، ولم تجد أى نوع من الشفقة فى قلب السجانات التى من المفترض أنهن أم مثلها، فاضطرت لأن تشتري له الحليب من الكانتينا بالسجن رغم ثمنه الباهظ.
لم يكن هذا هو الموقف الأخير ولكن تلته آلام أخرى، ولعل أبرزها كان تعرض يوسف لضعف صحي وصل إلى حد الاقتراب من الموت، وكان عمره وقتها 40 يومًا فقط، وقد ارتفعت درجة حرارته إلى 39 درجة ونصف، وخرج الزبد من فمه الصغير، وظلت آلام تبكى بعد أن تيقنت أنه الفراق الأخير بينها وبينه، ولكن قدر الله للطفل أن يعيش واستطاعت هي والأسيرات من تجاو المحنة، وكان الطبيب الإسرائيلي قد جاء لعلاج يوسف بعد أسبوعين من مرضه وكان محروما من العلاج.
وأخيرا الحرية 10 /2009 
شهر واحد ويكمل يوسف عامه الثانى، ووفقًا للقانون سيتم فصله عن أمه، بكاء فاطمة أصبح لا ينقطع، ودعاؤه بات مستمرًا على أن تتحرر معه أو أن يبقى لديها، فالفراق صعب. 
تجلس فاطمة الزق مع ولدها وأصدقائها من الأسيرات فى الزنازنة يستمعون إلى إذاعة الـ bbc، وقد علموا أن هناك صفقة إفراج عن أسيرات ستتم مقابل شريط يثبت أن الجندى المختطف شاليط ما زال على قيد الحياة، وبحالة جيدة، وسميت تلك الصفقة بصفقة "شريط شاليط" وبات الجميع يتمنون أن يخرجن جميعا.
فجأة سادت حالة من الفرحة والهرج بالزانزين مع بدء إعلان أسماء المفرج عنهم ليأتى اسم فاطمة الزق وولدها يوسف فى القائمة، ورغم الفرحة العارمة بالإفراج عنها وعن ولدها إلا أنها كانت تشعر بمدى قساوة وحزن الفراق، ورغبة شديدة فى الإفراج عن الجميع وليس 20 أسيرة فقط.
تختم فاطمة حديثها معنا بجمل بسيطة في كلماتها، ولكن وراءها معنى كبير فتقول: "في بداية الحرية مر يوسف بأزمة نفسية كبيرة، فهو كان مقتنع أن السجن هو الوضع الطبيعي لنا، وإن الحرية هي المكان الخاطئ، كان يبكيني كل ليلة، وكان دائم السؤال والحنين إلى الأسيرة لينا الجربونى.

للعودة لباقى الملف من هنا