فى انتظار القمة العربية رقم ٢٨، والتى تستضيفها العاصمة الأردنية عمان فى التاسع والعشرين من مارس الحالى، يجدر بنا أن نُفعل قيم ومبادئ «الدولة المدنية الحديثة» قياسًا على واقعنا العربى. خاصة أن الخريطة العربية مرشحة لكثير من المستجدات بحكم ما تشهده المنطقة من إعادة ترتيب، وفك وتركيب القوى الإقليمية، اتساقًا مع حركة نظام عالمى، آخذ فى التحول من نظام أحادى القطبية، بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية، إلى نظام متعدد الأقطاب، يستند إلى توازنات إقليمية ترعاها وتشرف عليها قوى عالمية، دون أن تنغمس وتتورط فى إشكالياتها العميقة، على نحو ما كان من الولايات المتحدة الأمريكية عندما انزلقت إلى حروب إقليمية ما زالت مشتعلة.
وبالنظر إلى تنوع أشكال الحكم فى الدول العربية، وقبل البدء فى رصد ملاحظاتنا على ما بلغته الدول العربية على طريق إنجاز حقيقى فى بناء «الدولة المدنية الحديثة»، أود الإشارة إلى تصحيح واجب، لعل به نهتدى إلى رؤية أكثر موضوعية. فواقع الأمر أن البعض يشير، بالخطأ، إلى أن النظم البرلمانية أكثر ديمقراطية من النظم الرئاسية وشبه الرئاسية. والواقع أن تلك ما هى إلا الأشكال الرائجة والغالبة فى أنظمة الحكم المعاصرة. غير أن التأسيس على ذلك فى بناء رؤية مؤكدة حول مدى ديمقراطية الحكم، فذلك أمر فيه مبالغة كبيرة، وتهاون أكبر فى الإمساك بالحقائق.
فليس من شك أن بريطانيا، وهى أعرق الديمقراطيات المعاصرة، تمتلك نظامًا برلمانيًا عريقًا، شكّل مدرسة عالمية يؤخذ عنها الكثير والكثير. إلا أن ذلك لا يمنع أن الولايات المتحدة الأمريكية، وهى النموذج الأول للنظم الرئاسية، تحتوى بلا شك على ديمقراطية لافتة، لا يصح التقليل من شأنها تحت وطأة خلافاتنا مع كثير، أو مجمل سياساتها، خاصة فى منطقة الشرق الأوسط. كذلك لا يمكننا التراخى فى رصد ما حققه النموذج الفرنسى من نجاح حقيقى فى صياغة نظام سياسى ديمقراطى، عرفته الأدبيات السياسية بأنه «شبه رئاسى»، إذ تتوزع السلطة التنفيذية بين رئيس الدولة ورئيس الوزراء. وعلى هذه الحال يمكن القول إن «أشكال الحكم»، برلمانية أو رئاسية أو شبه رئاسية، ما هى إلا صيغ يمكن بمقتضاها تحقيق ديمقراطية الحكم، كما يمكن الالتفاف حولها لتكريس حكم الفرد، وتجاهل كل مقومات «الدولة المدنية الحديثة».
من هنا ترتبط العملية الديمقراطية بجوهر العقيدة السياسية للدولة، وحقيقة الإرادة السياسية للنظام الحاكم، وأيضًا محتوى الإرادة الشعبية من قيم ومبادئ العملية الديمقراطية. وتلك كلها أدوات فاعلة فى بناء «الدولة المدنية الحديثة».
لا يعنى ذلك أن شكل الحكم لا دلالة له، فليس من شك أن أشكالًا بعينها من الحكم لا يمكن أن تفرز نظامًا حاكمًا يعمل على تحقيق قيم ومبادئ «الدولة المدنية الحديثة». إذ لا تستند بعض أشكال أنظمة الحكم إلى قواعد العملية الديمقراطية. من ذلك على سبيل المثال النظام «الجماهيرى» الذى بشر به الرئيس الليبى الراحل معمر القذافى، والذى لم ينجح فى تقديم نموذج واضح لعمل الآليات الديمقراطية المتعارف عليها. أدى ذلك إلى أن مقومات الدولة الليبية كانت الأكثر تأثرًا بعد القضاء على حكم القذافى، فقد كان الرجل هو الدولة، ولا مؤسسات وطنية حقيقية يمكن أن تنهض بأى دور فى الحفاظ على الدولة؛ ذلك أن «مفهوم الدولة» بحد ذاته لم يكن موجودًا وفق ما سطرته التجارب المعاصرة على اختلاف تطورها.
وارتكازًا على قواعد «الدولة المدنية الحديثة»، الديمقراطية والمواطنة والعلمانية، ننطلق إلى رصد بعض الملاحظات على المنتج العربى فى هذا الإطار، فأقول:
• إجمالًا تتوزع أنظمة الحكم العربية بين الرئاسية والملكية، غير أنها تجتمع على ضعف محتواها من العملية الديمقراطية، وهنا يمكن تفصيل الأمر على النحو التالى:
بالنسبة للنظم الرئاسية: تشهد النظم الرئاسية العربية تجاوزات تصطدم بشدة بجوهر وقيم «الدولة المدنية الحديثة»، سواء من استطالات زمنية بعيدة المدى فى فترات البقاء فى السلطة؛ ومن ثم فى إحكام قبضة الرئيس على السلطة. وبالتالى تغيب أيضًا «المؤسسية» الواجبة فى إدارة شئون «الدولة المدنية الحديثة». وعليه لا حديث جاد عن «تعددية سياسية»، ولا بحث عميق فى جوهر العملية الديمقراطية، إلا من أدواتها السطحية الماثلة فى «الانتخابات»، وهنا لا ينبغى أن يفاجئنا ضعف النظام بشكل عام عند أى اختبار، لاحظ هنا أن الحزب الوطنى الذى حكم مع مبارك نحو ثلاثين عامًا اختفى وزال فى عدة أيام بفعل ثورة ٢٥ يناير، ما يؤكد هشاشته، وكونه فى الأساس مجموعات مصالح لا تعبر أبدًا عن مفهوم «النظام السياسى الحاكم» حقيقى. ومن هنا كان حرص مصر فى دستور ٢٠١٤ على تحديد مدة الرئاسة بأربعة أعوام، ولا يحق للرئيس البقاء لأكثر من دورتين رئاسيتين.
ــ بالنسبة للملكيات العربية: مازالت الملكيات العربية وراثية، يتداولها أبناء الأسرة الحاكمة وفق محددات حاكمة، وليست ملكيات دستورية كما الحال مثلًا فى بريطانيا؛ ومن ثم فإن الملك «العربى» يملك ويحكم، بينما الملك، فى الملكيات الدستورية، يملك ولا يحكم، ففى بريطانيا السلطة التنفيذية مُركزة فى منصب رئيس الوزراء وحده. لا ينفى ذلك أن الملكيات الخليجية حققت بالفعل طفرات حضارية كبير، إلا أن البناء السياسى ما زال فى حاجة إلى جهود كبيرة.
• إلى أن ترسخ قواعد «الدولة المدنية الحديثة» فى الوطن العربى، ستظل العلاقات العربية-العربية تعانى، جراء مجموعة من العوامل، يمكن إيجازها فى غلبة الحكم الشخصى، وتراجع الفكر المؤسسى إلى حد بعيد. وعليه يفتقر العالم العربى إلى وجود أدوات وآليات فاعلة فى العمل العربى المشترك. ومن منا راضٍ عن المنتج النهائى لجامعة الدول العربية؟!، فرغم تأسيسها عام ١٩٤٥ أى قبل «الاتحاد الأوروبى»، الذى تأسس وفق اتفاقية روما ١٩٥٨، إلا أن جامعة الدول العربية لم تنجز الطموحات الشعبية العربية التى تعلقت بها. ولعل الأمر مردّه إلى أن الكيانات الكبرى ما هى إلا محصلة مكوناتها؛ ومن ثم فقد نشأت جامعة الدول العربية بقرار سياسى مفاجئ، بينما تصاعد «الاتحاد الأوروبى» وتطور عبر اتفاقيات اقتصادية نابعة بالفعل من قواسم مشتركة بين الشعوب الأوروبية التى أرادت تفادى عودة الدمار الذى لحق بها جراء الحربين العالميتين الأولى والثانية؛ وبالتالى نشأ الاتحاد الأوروبى على أسس متينة إلى أن تم توقيع الاتفاقية المتعلقة به فى الأول من نوفمبر عام ١٩٩٣، وتطور الأمر إلى وحدة سياسية واقتصادية حقيقية، فتحققت وحدة العملة الأوروبية «اليورو»، وهو ما لم يتحقق حتى خليجيًا رغم السعى نحوه منذ سنوات. كما بات الاتحاد الأوروبى أكبر تجمع اقتصادى فى العالم، مع إستراتيجية سياسية لا تحجب استقلال القرار السيادى للدول الأعضاء. أما جامعتنا العربية، وقد نالها من اللوم الكثير، حتى لم يعد مجديًا أن نذكر تدنى التجارة البينية العربية، ولا هروب الاستثمارات العربية إلى خارج الوطن العربى، ولا عمق وتجذر الخلافات العربية-العربية، حتى باتت مسلحة!، وعليه فلا جديد أيضًا إذا أشرنا إلى تراجع القضايا العربية، وفى القلب منها القضية الفلسطينية، إلى الصفوف الأخيرة فى الأجندة الدولية.
وإلى الأسبوع المقبل بإذن الله، لنواصل فى الجزء الثانى قياسنا لموقع الأمة العربية على طريق «الدولة المدنية الحديثة»، بانتظار ما ستسفر عنه القمة العربية فى عمان من نتائج هى صميم ما سنرصده فى الجزء الثالث والأخير من حديثنا «العربى» عن «الدولة المدنية الحديثة».