إن كل يوم، بل كل لحظة يأتى العلم بجديد، ومن ثمَّ فإن المرء قد يعجز عن تخيل ما سوف يحققه العلم للبشرية ـ إذا قُدِرَ لها الاستمرار فى البقاء ـ بعد عدة قرون من الآن. إنه لم يعد ثمَّة شك فى أن العلم أصبح قوة هائلة ومؤثرة فى حياتنا اليومية. وقد تقدمت بالعلم دول وشعوب وصلت إلى أعلى مستوى حضارى. وتقاعست دول أخرى عن الأخذ بأسباب العلم فتخلفت عن ركب الحضارة، ونحن ننتمى إلى الفئة الأخيرة، إذ نجد ـ فى وطننا العربى ـ من يُحَرِّم على المرأة أن تقود سيارتها بنفسها بحجة أن هذا يتنافى مع مظهر المرأة المسلمة.
كما نجد من يبحث فى مسألة ما إذا كان يحق لطالبات كليات الطب أن ينظرن ـ أثناء التشريح ـ إلى الجثة العارية للرجل أم لا!!
والواقع أنه لا بد لأى شعب يريد اليوم أن يجد مكانًا له تحت الشمس أن يحترم أسلوب التفكير العلمى ويأخذ به، وإذا أمعنا النظر فسنجد أن العلم هو أولًا وقبل كل شىء منهج فى التفكير قبل أن يكون معامل وأنابيب وأجهزة، فالإنسان العادى عندما يفكر فى البحث العلمى يتخيل مختبرًا يحتوى على كمية كبيرة من الأنابيب الزجاجية المعقدة، وعلى كثير من الأجهزة الفنية الغامضة، كما أنه عادةً ما يتم تخيل الرجل العالِم وهو يقف بمعطفه الأبيض وسط المختبر ومعه «كما يجىء فى أفلام السينما الأمريكية» مساعدة شقراء جميلة، ولكننا إذا حذفنا من هذه الصورة المعدات الفنية والمعطف الأبيض والمساعدة الحسناء، فلن يتبقى إلا الرجل والتجربة.
ففى الإنسان والتجربة نجد مفتاح المنهج العلمى، وإذا كنا ننظر إلى العلم بوصفه منهجًا، فإننا ننظر إليه على هذا النحو بغض النظر عن الموضوعات التى ندرسها بذلك المنهج. فليس العلم وقفًا على نوع الحقائق التى يبحثها العلماء، لأن الحقائق التى يبحثونها مختلفة، ورغم اختلاف موضوعاتهم فنحن نطلق عليهم جميعًا لفظ «علماء» والذى جعلهم يستحقون هذا الوصف هو منهجهم الذى اعتمدوا عليه فى البحث لا مادتهم التى يبحثونها.
وعلى ذلك يمكننا القول إن العلم هو طريقة فى النظر إلى الأمور تعتمد أساسًا على العقل والبرهان المقنع ـ بالتجربة والدليل ـ وهى طريقة يمكن أن تتوافر لدى شخص لم يكتسب تدريبًا خاصًا فى أى فرع بعينه من فروع العلم، كما يمكن أن يفتقر إليها أشخاص يتوافر لهم من المعارف العلمية حظ كبير، واعترف بهم المجتمع بشهاداته الرسمية، ومنهم من وصل إلى منصب الأستاذية فى الجامعة، ومع ذلك نراهم يدافعون بشدة عن كثير من الخرافات، رغم أنهم داخل تخصصهم يتبعون منهجًا علميًا دقيقًا وحاسمًا، لا يقل دقة وحسمًا عن المنهج الذى يتبعه أقرانهم من أساتذة جامعات أمريكا وأوروبا.
وأذكر فى هذا الصدد واقعة حدثت بالفعل، وهى أن أحد الزملاء بالجامعة وعلى درجة «أستاذ»، جاءنى يومًا حزينًا وعابس الوجه، لأنه فى صباح ذلك اليوم ذهب إلى الملحقية الثقافية لإحدى الدول الخليجية بغرض السفر للعمل فى تلك الدولة، غير أن طلبه للسفر رُفِضَ. سألته عن سبب الرفض، وظننت أنه سوف يجيبنى بأن طلبه للسفر قد رُفِضَ، لأنهم يطلبون مؤهلًا مختلفا عن مؤهله، أو تخصصًا غير تخصصه، أو أنه لم يكن موفقًا فى رده على الأسئلة التى طرحها عليه أعضاء اللجنة التى كانت موجودة فى الملحقية لاستقبال واختبار الراغبين فى السفر!!
الحقيقة أن الأستاذ الدكتور لم يذكر شيئًا من هذا، بل فاجأنى برد ذكره لى وهو متجهم الوجه وحزين، قال:
- «أنا عارف أنا لم أوفق النهارده ليه!!».
سألته بلهفة وحب استطلاع شديدين:
- «ليه.. ؟!»
أجاب بكل جدية:
- لأن أنا النهارده الصبح.. وأنا رايح الملحقية الثقافية قابلت فلان.. وفلان دا وش فقـر.. وشه يقطع الخميرة من البيت.
قال هذه العبارة بجدية تامة، وليس على سبيل المرح أو الفكاهة.
نخلص من ذلك إلى القول بأن التفكير العلمى شىء وتكريس المعلومات شىء آخر، ولكى نميز بين إنسان يفكر بطريقة علمية وآخر يعتمد فى تفكيره على الخرافات، لا بد لنا أن نحدد ما نقصده بالخرافة. إن الخرافة تختلف عن العلم، لأن الخرافة تعتمد على «رابطة عرضية» بين شيئين، فإذا زارنا شخص ما نعتقد أنه من النوع «الحسود» ثم حدثت لنا مصيبة أثناء أو بعد زيارته لنا، فإننا غالبًا ما نربط بين زيارته لنا وما أصابنا من كوارث، ونتوهم ـ خطأ ـ أن الرابطة بينهما رابطة دائمة وضرورية على الرغم من أنه لا صلة بين هاتين الظاهرتين، قد يكون اقتران وقوعهما قد حدث ـ بمحض المصادفة ـ مرة أو مرتين أو أكثر، ولكن هذا لا يعنى أن نربط بينهما ربطًا دائمًا. ولتوضيح معنى «الرابطة العرضية» نأخذ المثال الآتى:
لنفترض أنك هممت بتشغيل جهاز التليفزيون فى منزلك، فسمعت بمجرد ضغط إصبعك على مفتاح التشغيل صوت انفجار شديد ارتجت له جنبات المنزل، ولنفترض أن هناك معسكرًا أو مصنعًا حربيًا أقيم حديثًا على مقربة من منزلك، يقوم أفراده بإجراء تجارب على أنواع معينة من المتفجرات، وأنت لا تعلم شيئًا عن هذا المعسكر، ولا تعرف أصلًا أنه موجود، ولا يعلم أحد من الأهل أو الجيران شيئًا عن وجود هذا المصنع الذى أُنشئ حديثًا ـ بسبب أنه مصنع سرى ـ ولكن يتصادف فى كل مرة تحاول فيها تشغيل جهاز التليفزيون أنه بمجرد أن يضغط إصبعك مفتاح التشغيل، تسمع صوت انفجار شديد ترتج له جنبات المنزل، ولنفترض أن هذا تكرر حدوثه أكثر من مرة على فترات متقاربة أو متباعدة.
مما لا شك فيه أنه سوف تأتى عليك لحظة ترتجف فيها رعبًا من مجرد التفكير فى تشغيل جهاز التليفزيون، لأنك سوف تعتقد اعتقادًا راسخًا أن ضغط إصبعك على مفتاح تشغيل جهاز التليفزيون هو سبب أو علة حدوث الانفجار، ومهما حاول المرء إقناعك بأن العلاقة بين تشغيل جهاز التليفزيون وسماع صوت الانفجار هى علاقة عرضية ـ أى نشأت عن طريق الصدفة البحتة ـ فإنك لن تقبل هذا الرأى، وستظل متشبثًا باعتقادك أن هناك علاقة ضرورية ودائمة بين تشغيل جهاز التليفزيون وسماع صوت الانفجار رغم خطأ هذا الاعتقاد وابتعاده عن الحقيقة والواقع.
هذا المثال يوضح طبيعة «الرابطة العرضية» التى تستند إليها معظم الخرافات، فالخرافة تستند ـ كما سبق أن ذكرنا ـ إلى علاقة وهمية بين شيئين كالتشاؤم مثلًا من رؤية قطة سوداء، أو التشاؤم حين سماع نعيق الغراب عند السفر. فى مثل هذه الحالات يتوهم صاحب المعرفة الخرافية أن هناك رابطة دائمة بين نعيق الغراب أو رؤية القطة السوداء، وبين حدوث المصائب والكوارث. مع أنها فى حقيقة الأمر «رابطة عرضية» قد تكون حدثت مرة أو مرتين فظن أنها رابطة دائمة، هذه ومثيلاتها علاقة وهمية خرافية، يحارب العلم التسليم بها، لأنها لا تحتوى على شرط العلاقة السببية الثابتة التى يحرص العلم على الكشف عنها. والعلاقة السببية الثابتة تخضع لشرطين:
- الشرط الأول: أن يشهد بصدقها الواقع.
- الشرط الثانى: أن يكون وقوعها مطردًا، بحيث لا يحتمل شذوذًا
أو استثناءً.
وتوضيحًا لذلك نقول: إنه إذا حدث أن سمع إنسان نعيق الغراب ولم يلحقه ـ ولو مرة واحدة ـ أى أذى، كان ذلك دليلًا مقنعًا فى نظر العلم على خطأ الاعتقاد بأن نعيق الغراب هو سبب نزول الكوارث، حتى ولو ثبت أن كثيرين قد لاحظوا أنه كلما سمعوا هذا النعيق أصابهم الأذى.
ولعل هذا يُذَكِرنا بالمثال الرائع الذى ساقه الفيلسوف الإنجليزى «فرانسيس بيكون» Francis Bacon ( ١٥٦١- ١٦٢٦) فى معرض حديثه عن الأوهام التى تمتلئ بها رؤوس البشر، والتى يسميها «أوهام الجنس» فى هذا المثال يروى بيكون قصة رجل كان ينكر أثر النذور فى استرضاء الآلهة، فعُرِضَت عليه صور أولئك الذين وفوا نذورهم بعد نجاتهم من خطر الغرق إثر تحطم سفنهم، عُرِضَت عليه تلك الصور المعلقة على جدار معبد، ثم أُحْرِج بالسؤال الآتى:
- ألا تعتقد بعد ذلك فى حكمة الآلهة؟
فسأل بدوره قائلًا:
- لكن أين أجد صور أولئك الذين نذروا النذور لنجاتهم.. ومع ذلك غرقوا وهلكوا؟!
إن القاعدة المنهجية تقول إن مثالًا واحدًا يتعارض مع قانون أو نظرية كفيل بهدم القانون أو النظرية وتقويضهما، ولو شهدت بصوابهما مئات الشواهد.