لأننا استمرأنا عدم تسمية الأشياء بأسمائها تتكرر الأحداث الإجرامية التى نصر على تسميتها فتنة طائفية وما هى كذلك، ومنذ أحداث الخانكة 1972، والتى استفزت كل المصريين ودفعت مجلس الشعب آنذاك لتشكيل أهم لجنة تقصى حقائق برئاسة وكيل المجلس الدكتور جمال العطيفى - حمه الله - والتى انتقلت إلى موقع الأحداث، والتقت بكل الأطراف واستمعت لكل من له علاقة بالحدث والمكان والأزمة، وعكفت على إعداد تقرير يكشف الملابسات والمدخلات، ويقدم رؤية ضافية للحلول وتفكيك الأزمة وتجفيف منابعها، على مراحل متعددة منها ما هو آنى ومنها ما هو استراتيجى، وكان تفعيل التقرير الذى قدم للمجلس ورفع للرئيس السادات كفيلاً بوضع نهاية لهذه الأحداث وقطع الطريق على من يستهدف أمن الوطن القومى، لكن التقرير حقق امتصاصاً لغضب الشارع وذهب إلى المجهول، فكان أن تكررت الأحداث الإجرامية، تنتقل من محافظة إلى أخرى، وتنفجر فى مناطق عديدة بشكل متواتر ومتصاعد.
حتى أنها تفاجئنا بالأمس القريب، الخميس 28 نوفمبر 2013، فى قريتى "الحوارتة" و"نزلة عبيد" بمحافظة المنيا، مع اختلاف أسبابها المباشرة فى كليهما، لكنها تكشف عن التربص المسبق بمسيحييها، والدفع باستدراجهم لأكمنة معدة سلفاً استتبعها الاعتداء المروع عليهم وعلى منازلهم.
ومن المثير للدهشة أن تظهر أصوات تدعو لإعادة إنتاج الحلول الرتيبة وكأننا لم نبرح ما قبل 25 يناير، ولم نسمع عن 30 يونيو، ولم تتغير التوجهات، وعلى رأسها الدفع باتجاه القبول بجلسات الصلح العرفية والضغط على الكنيسة للقبول بما كان قبلاً محل رفض واستنكار كل القوى الوطنية، وكانت السبب المباشر فى استمرار العنف واستهداف المواطنين المصرين المسيحيين "الأقباط"، وهى أيضًا، مناهضة لطرح العدالة الانتقالية، وتمثل تهديدًا حقيقيًا لثورة 30 يونيو وقد تجهضها وترتد بنا إلى دولة الاستبداد وتعمق شيوع روح الكراهية.
فقد كانت العدالة الانتقالية واحدًا من المطالب الأساسية التى تبنتها القوى المدنية كآلية ضرورية للانتقال من الحالة التى سادت مصر فى ظل النظامين السابقين، إلى حالة جديدة تتحقق فيها أحلام ومطالب وأهداف ثورتى 25 يناير و30 يونيو.
والعدالة الانتقالية بحسب تعريف الفقهاء الدستوريين والقانونيين، والتى فصلتها المادة الأولى فى مشروع مقترح لقانون العدالة الانتقالية أعده المستشار عادل ماجد نائب رئيس محكمة النقض، وطرحه للحوار بين المهتمين ودعمه نادى القضاة المصرى، وقدمه للجنة الخمسين لتعديل الدستور والحكومة المصرية، والتى تقول إن العدالة الانتقالية: "هى مجموعة من التدابير والإجراءات القضائية وغير القضائية يتم الاضطلاع بها خلال مرحلة ما بعد ثورتى الخامس والعشرين من يناير 2011 والثلاثين من يونيو 2013 لكشف وتوثيق والتصدى لانتهاكات حقوق الإنسان وغيرها من صور إساءة استعمال السلطة التى سبقت وعاصرت وتلت الثورتين، ترمى إلى القصاص العادل للضحايا وجبر الأضرار التى لحقت بهم وبذويهم وإصلاح مؤسسات الدولة وإرساء الثقة بين أطياف المجتمع وتحقيق التعايش السلمى بين أطيافه بهدف تحقيق المصالحة الوطنية الشاملة، والانتقال بالمجتمع إلى صميم مرحلة الديمقراطية، مع محو آثار ما حدث من انتهاكات وتجاوزات والحيلولة دون تكرارها مستقبلاً".
وبينما تتكاتف جهود كل الوطنيين للدفع باتجاه استكمال مسيرة الانتقال إلى الدولة المدنية التى تقر التعدد والتنوع وتقوم على المواطنة والمساواة، تروعنا أحداث العنف المؤسس على خلفيات طائفية فى محاولة من النظام السابق لإسقاط الثورة من خلال خلخلة العلاقات التاريخية بين أطياف الشعب المصرى وتحديداً باستهداف أقباطه، الذين تحملوا تكلفة الثورة من أرواحهم ودمائهم وممتلكاتهم.
وهى أمور تستوجب الانتباه مجدداً لحتمية وضع حد لاستمرار هذه الجرائم والتى لم تتوقف على مدى عقود كما أسلفنا، وتتكرر معها ردود الفعل نفسها الرسمية التى تنتهى إلى عقد جلسة صلح عرفية تدفع الأقباط إذعاناً للقبول بها والرضوخ لضياع حقوقهم دون جبر الضرر الذى لحق بهم، ومنح الجناة مكنة الإفلات من تحمل مسئولية ما اقترفت أياديهم، وغل يد العدالة عن بسط مظلتها، والارتداد إلى سياقات ما قبل الدولة.
لذلك فنحن نرفض تماماً جميع الضغوط التى تمارس من الإدارة وبعض الجهات لدفع الكنيسة والأقباط للقبول بمبدأ الصلح العرفى مجدداً، وهو أمر يحمل إشارة واضحة للنكوص بمبادئ وأهداف الثورة، ويكشف عن قصور العديد من الجهات عن استيعاب المتغيرات التى جاءت بها الثورة، بل وتتطلب تنقية الأجهزة الرسمية من داعمى الثورة المضادة ومن لا يؤمنون بالعدالة والمواطنة.
ونطالب السيد المستشار عدلى منصور رئيس الجمهورية، بالأمر، برفع الضغوط التى تمارس فى هذا الشأن على الكنيسة وأقباط المنيا، وتفعيل سيادة القانون فى شفافية وحزم، ومساءلة من يمارسون هذه الضغوط، وفقاً لمبادئ وأهداف ثورة 30 يونيو، ووضع نهاية لنزيف الدم الذى يتحمله أقباط مصر حتى نغلق الطريق على الارتداديين وأعداء الثورة.