«تقاسم السعادة» جمع بين أقدم وأحدث أشكال الاتصال فى العالم
المصريات نجحن فى ترويض الأحجار العتيقة بأناملهن الرقيقة
تحت أشعة الشمس الملتهبة، عاقصًا رأسه بمنديل يحميه من الحر، مرتديًا كمامة تقيه شر الغبار الذى يخرج من القطع الحجرية، يقف ممسكًا بشاكوشه، بشنيوره، بأدواته الحادة، يهذب ويروض بها القطع الحجرية الصماء، لتخرج فى نهاية الدورة قطعة فنية محمّلة بالكثير من الدلالات والإشارات والإسقاطات والفلسفة التى تضج بها الأعمال الفنية عادة.
ووسط هذه الأجواء المفعمة بالمغامرة والتحدي؛ خاض خمسة فنانين من مختلف دول العالم، وأربعة مصريين تجربة الدورة الـ٢٢ لسمبوزيوم أسوان، وهم «خوسيه كارلوس ميلان» من إسبانيا، و«فاليرى جيكيا» من جورجيا، و«كلاوس هنسيكر» من ألمانيا، و«ليو يانج» من الصين، و«هيروكى اساكاوا» من اليابان، بجانب أربعة من الفنانين المصريين، وهم تريز أنطوان لويس، وريم أسامة، وعلى سعدالله على، وماجد ميخائيل، بالإضافة إلى ورشة العمل، التى ضمت الفنانين الشيماء درويش، أحمد مجدى، تامر رجب، عبدالمجيد إسماعيل، علا موسى، شروق هلال.
ولعل العمل الفنى الذى شارك به الفنان اليابانى هيروكى اساكاوا، كان من أكثر الأعمال إثارة وفتنة للمهتمين بأعمال الدورة الحالية؛ حيث جاء العمل على هيئة سماعتى هاتف عملاقتين تم نحتهما بكل احترافية، تعمل السماعتان نفس عمل الهاتف، ويمكن لمن يقف على الجانب الآخر أن يهاتف السماعة الأخرى، ويكون الصوت مسموعًا بكل وضوح.
تقاسم السعادة
اختار اسكاوا «تقاسم السعادة» ليكون عنوانًا للعمل الذى يجمع بين أقدم وأحدث أشكال الاتصال فى العالم، فما بين النحت وتكنولوجيا الاتصال الحديثة جاء العمل مثيرًا دقيقًا معبرًا عن الكثير من المعانى، بعد أن استخدم الفنان اليابانى المعادلات الرياضية فى تصميم هذا العمل الفنى المعقد، ليس فقط للخروج بالسماعتين بهذا الشكل المبهر، والتماهى والتطابق التام من حيث الحجم والبعد المرئى، وإنما لإضافة البعد الصوتى الجديد على العمل الفنى.
الفنان الصينى ليو يانج لم يقلّ عمله الفنى أهمية عن سابقه، وهو يشبه فى ألقه وتوهجه قصيدة أمير الشعراء أحمد شوقى عن شريان الحياة فى مصر، وهو نهر النيل، فإذا كان شوقى قد خاطب النيل قائلًا:
مِـنْ أَيِّ عَهـدٍ فـى القُـرَى تتَـدَفَّقُ.. وبـأَيِّ كَـفٍّ فـى المـدائن تُغْـدِقُ؟
ومـن السـماءِ نـزلتَ أَم فُجِّـرتَ من .. علْيـا الجِنان جَـداوِلاً تـتَرقرقُ؟
وبــأَيِّ عَيْــنٍ، أَم بأَيَّــة مُزْنَــةٍ.. أَم أَيِّ طُوفـانٍ تفيــض وتَفْهَــقُ؟
وبــأَىِّ نَــوْلٍ أَنـتَ ناسـجُ بُـرْدَةٍ.. للضفَّتيْـن، جَديدُهــا لا يَخــلَقُ؟
فقد استلهم يانج عمله من جدول نهر النيل المتدفق، ومن تعرجه الذى يمنح المصريين قبلة الحياة، ويعطى للبيئة الصحراوية التى تحيط به خطًا مغايرًا ووجهًا أخضر للصفحة الصفراء التى تسيطر على الخريطة المصرية، ومن مآثر هذا العمل الفلسفية يشير يانج إلى أننا يمكن أن نكسب باللين ما لا يمكن أن ننتزعه بالقوة، باعتبار أن نقطة الماء والتراكم الذى يمثله انسيابها اليومى، يمكن أن يفت فى عضد البيئة القاسية أكثر من استخدام القوة العضلية معها.
مسك العصا من المنتصف
على جانب آخر، جاءت منحوتة الفنان الألماني «كلاوس هانسيكر» لتحمل عنوان «توازن»، ولتمسك بالعصا من المنتصف، فيما تعبر به عن استبدال صراع الحضارات بالحوار، ولإثبات أنه لا تعارض بين القديم والجديد أو بين التراث الإنسانى والتطور التكنولوجى، وجاء العمل على هيئة عمل عمودى يتوسطه شكل بيضاوى بخطوط أفقية فى النصف العلوى والسفلى يعكس بعضها بعضًا، ويشكل الجزء العلوى ما يشبه تاج الملكة نفرتيتى، بينما تذكرنا الخطوط باللحى التى تظهر على الأقنعة المصرية القديمة.
قدرات رائعة لفنانات مصريات
وقد تجّلت قدرات المرأة المصرية جلية فى الدورة الـ٢٢ للسمبوزيوم بعد المشاركة المكثفة من الإمكانات التى أظهرتها الفتيات المشاركات فى أعمال السمبوزيوم واللاتى ظهرن بشكل مشرف، ونجحن فى ترويض الأحجار العتيقة بأناملهن الرقيقة.
الفنانة الشيماء درويش صممت عملًا نحتيًا تخلد من خلاله ولادتها لطفلها الأول «موسى» متأثرة بآلام المخاض، وموثقة للحظة الميلاد باعتبارها اللحظة الأكثر حميمية بين الأم وطفلها، حيث جاء العمل النحتى على شكل بيضاوى يصور الجنين وهو يحتضن نفسه بكفيه الصغيرين، مخبئًا وجهه الصغير من العالم الخارجى، وهو عمل يلخص العلاقة بين الأم وطفلها.
وقد نجحت الشيماء فى التعبير عن مرادها بعمل مليء بالمنحنيات يناسب تمامًا العلاقة بين الأم ووليدها، وجاء ملمسه الخارجى ناعمًا للغاية، ليعبر عن ملمس الوليد لحظة خروجه إلى الدنيا قبل أن تخشوشن أطرافه ويصير غليظ القلب والإحساس.
أما الفنانة ريم أسامة، فشاركت فى السمبوزيوم بعمل يجسد قطة تبدو متحفزة ومتخذة وضع الاستعداد للانقضاض على أى شيء يقابلها، ووضعت له عنوان «وضع تحفز».
وجاء العمل محملًا بالأشكال الهندسية باعتباره يناسب النحت على الحجر؛ مستفيدًا من تلاعب الظل والضوء على ثنايا الحجر.
بينما جاء عمل الفنانة شروق هلال تحت عنوان «عدَاء الطائرة الورقية»، وهو مكون من ثلاثة أجزاء، الطائرة الورقية، وظلها على الأرض، وقاعدة طويلة محمل عليها العمل، وهو تعبير عن هوايتها فى طفولتها عندما كانت تستمتع باللعب بالطائرات الورقية فى الإسكندرية؛ وهو عمل خفيف الظل يحتوى على أشكال طويلة ورفيعة من الحجر، مما أكسب العمل مزيدًا من الرشاقة والتناسق بين ألوان الجرانيت المختلفة، والتى تم استخدامها لإبراز الفروق بين مكونات العمل.
فى حين غاص الفنان تامر رجب فى عالم الطبيعة، ليسجل ويوثق بعض الكائنات والمخلوقات التى تملأ حياتنا، ولا ننتبه لها، رغم أنها موجودة ولها حياتها الخاصة التى قد توازى فى تأثيرها وأهميتها حياة الإنسان نفسه، بينما يشعر هو أن جميع الأشياء والمخلوقات وجدت فى الطبيعة لخدمته، وهو عمل تجريدى عن دودة يمكن أن تمثل إسقاطًا على أغلب الحشرات والكائنات الدقيقة الموجودة بالطبيعة، وهو يشبه الصورة الفوتوغرافية لحظة التقاطها.