بتفكيك ركيزة «الديمقراطية» فى بناء «الدولة المدنية الحديثة»، نجد أن «الشفافية» تحتل موقعًا مهمًا لا يمكن تجاوزه فى كل مجتمع ديمقراطى، وبما يتفق ووحدة وشمول منظومة القيم الدالة على عمق ورسوخ «الدولة المدنية الحديثة» فى الثقافة المجتمعية، قبل أن تكون فى النظام السياسى، الحاكم منه والمعارض، على السواء.
ورغم الحساسية، التى باتت مفرطة إلى حد مزعج، من كل ما يأتينا من جانب المنظمات الدولية غير الحكومية، فإن أمانة المسئولية الوطنية تحتم علينا الإشارة إلى ما جاء فى التقرير الأخير الصادر عن «منظمة الشفافية الدولية»، وهى منظمة معنية بالفساد، سواء كان فسادًا سياسيًا أو اقتصاديًا أو غيره من أوجه الفساد المتنوعة.
فقد أوضح التقرير الأخير للمنظمة أن مصر تراجعت عشرين مركزًا عام ٢٠١٦ فى مؤشر مدركات الفساد؛ فجاءت فى المركز الـ١٠٨، بعد أن كانت فى المركز الـ٨٨ عام ٢٠١٥. وهو التقرير الذى أكد أن عدد الدول التى تراجع تصنيفها بالمؤشر أكثر من عدد الدول التى أظهرت تحسنًا خلال العام الماضى، فى إشارة إلى ضرورة التدقيق فيما يقطعه المجتمع الدولى من خطوات إلى الخلف فى كثير من المحاور التى تقوم عليها «الدولة المدنية الحديثة».
ذلك أن «الشفافية» جزء أصيل من مكونات كل نظام ديمقراطى، تتضافر وتتكامل مع الكثير من المبادئ الحاكمة، مثل «سيادة القانون»، «حرية الرأى والتعبير»، حرية تداول المعلومات»، «المحاسبة»، «المساءلة»، «التداول السلمى للسلطة»، «الفصل والتوازن بين السلطات»، وغير ذلك من منظومة القيم الغالبة على النظم السياسية الديمقراطية. ليس أدل على ذلك من أن «منظمة الشفافية الدولية» تستند فى عملها إلى مجموعة من المعايير، من بينها «حرية الصحافة»، «استقلال القضاء»، «الشفافية فى الإنفاق العام»، «نزاهة المسئولين الحكوميين والمؤسسات العامة».
والواقع أن لغياب «الشفافية» علاقة وطيدة مع ما يُطلق عليه «الشعبوية»؛ ذلك الاتجاه العالمى الذى يعبر عن وجود أزمة ثقة حقيقية بين الشعب والنخبة، والتى يرجعها كثير من المحللين إلى الأزمة المالية العالمية وما تبعها من أزمات اقتصادية عانت منها الكثير من الشعوب الديمقراطية قبل غيرها من الشعوب الهامشية على مسار التقدم الديمقراطى. فكان أن عبرت «الشعبوية» عن رغبة الشعب فى استرداد السلطة من النخب التى اعتبرها مسئولة عن معاناته الاقتصادية. ومن هنا كان صعود الشعبوية أوروبيًا، وكذلك فى أمريكا الجنوبية، فى الأساس، تلاه خطوات أمريكية فى ذات الاتجاه، جسد انتخاب دونالد ترامب آخر حلقاتها.
وللثقة المفرطة فى تصاعد المد الديمقراطى، لم ينتبه الغرب إلى زحف الفكر الشعبوى، الذى عبر عن ضعف بعض النظم الديمقراطية الحديثة، كما فى أوروبا الشرقية مثلًا، وكذلك فى الدول التى نهضت بثورة شعبية، بغية تحول سياسى ديمقراطى، كحال مصر الآن. ما جعل من «الشعبوية» واقعًا لا يمكن تجاوزه، مع صعوبة التعامل معه دون كُلفة عالية يدفعها المجتمع من استقراره ومنجزاته نحو بناء «دولة مدنية حديثة» قادرة بالفعل على تحقيق رفاهية الشعوب.
نعود فنؤكد على العلاقة الوثيقة بين غياب «الشفافية» وشيوع الفكر «الشعبوي»؛ ذلك أن الخطاب الشعبوى حريص على استهداف المشاعر والعواطف، على حساب الحقائق والمعلومات، فنجده يتوجه ببساطة وخفة، هى بالفعل استخفاف، إلى رجل الشارع العادى. كذلك يستند الخطاب الشعبوى إلى وجود حالة من الاستقطاب بين «الشعب» الذى تمثله الحركة الشعبوية، وفريق آخر يتم استهدافه باعتباره السبب المباشر فيما يعانيه أصحاب الفكر الشعبوى من تحديات ومخاطر. ومن هنا تروج، فى مثل هذه الحالة، نظرية المؤامرة ومشتقاتها من أمور لا تدفع أبدًا باتجاه «دمقرطة» المجتمع. وتتبدى الخطورة فى أزهى صورها فيما يمكن أن يصل إليه المجتمع من تأليه الحكم المطلق.
على هذا النحو، يعبر غياب «الشفافية» عن مخاطر حقيقية تهدد مشوارنا الشاق نحو «الدولة المدنية الحديثة». وفى ذلك يمكن رصد مجموعة من الملاحظات، عساها تكشف عن قصور نداويه، وعقبات نتجاوزها، لو أن صدقًا حازته توجهاتنا صوب «الدولة المدنية الحديثة».
ولنا أن نعرف أن «الشفافية» ليست فقط كشفًا للمعلومات والبيانات، وإنما هى استجلاء للحقائق، وتوافق بين الغلاف والمضمون.
وهى على هذا النحو مسئولية تضامنية بين كل مكونات النظام السياسى. من هنا أقول: الأحزاب، بما أنها نبت ديمقراطى، فليس إلا هى يمكن أن تمثل الضمانة الأولى فى بناء صرح «الشفافية»، فى إطار «الدولة المدنية الحديثة». ورغم أن الأخيرة لا يمكن أن تغيب فيها المعارضة، فإن أحزابنا تضرب بقسوة مفهوم «الحزب السياسي»! فقد نشأت الأحزاب لتعبر عن التعددية السياسية المنوط بالنظام الديمقراطى الاستناد إليها. إلا أن أحزابنا تدعى أن وقوفها إلى جانب «الدولة» يمنعها من النهوض بدور المعارضة، ذلك المفهوم المنبوذ لدينا، ونحن نبنى دولة مدنية حديثة»! فواقع الأمر أن التجربة الوطنية الراهنة تفتقر إلى إدراك حقيقى لدور المعارضة فى بناء «الدولة المدنية الحديثة»؛ إذ ليس لدينا معارضة كاشفة لموقعها أمام الرأى العام، إلا من، وعلى استحياء، بعض الأحزاب المبنية على أساس دينى يخالف الدستور؛ ومن ثم فلو احتسبناها معارضة، فهى باطلة بحكم الدستور، وكأننا نريد أن نشوه المفهوم السامى للمعارضة فى ذهنية الرأى العام. يؤكد ذلك أن كل الأحزاب السياسية المدنية تعلن صراحة أنها تساند الدولة المصرية، وأن تلك المساندة تعنى، فى رأيها، عدم استهداف الوصول إلى السلطة؛ وفى ذلك هدم حقيقى لمفهوم الأحزاب السياسية، وسحب لشرعية القائمين عليها. فمن السمات الأساسية للحزب السياسى العمل على بلوغ السلطة. من هنا أجد أحزابنا المدنية أكثر ضررًا على النظام الحاكم وفرصته فى النجاح من المعارضة الحزبية القائمة على أساس دينى غير دستورى؛ ذلك أنهم يضربون «الدولة المدنية الحديثة» فى قواعدها الأساسية، بتنصلهم من أعباء التعددية السياسية، ويقدمون نموذجًا لا يقوى على مواجهة أى منطق سياسى معتبر.
إذ تقتصر المعارضة، وفق مفهومهم الهش على انتقاد دعائى باهت لأداء الحكومة. أما عن «شفافية» الحكومة، فحديث طويل ممتد، فما زلنا نعانى جراء غياب وضوح المعايير، إن وجدت، والتى يتم بموجبها اختيار أو استبعاد مسئول ما. بينما تعدد الفاسدين من بين كبار المسئولين، لا يشير فقط إلى قوة أجهزتنا الرقابية، وإنما بالأساس يؤكد حتمية تغيير المعايير التى يتم بموجبها الاختيار.
وفى الاتجاه ذاته نلاحظ أن بعض المسئولين يتم تغييرهم بعد شهور قليلة من توليهم مناصبهم، خذ مثلًا أخيرًا: وزير التموين السابق اللواء محمد على مصيلحى، وأيضًا وزيرة الاستثمار السابقة داليا خورشيد، الأمر الذى يؤكد أيضًا ضعف معايير الاختيار.
كذلك الدكتور جلال السعيد كان محافظًا للفيوم ٢٠٠٨/٢٠١١، فأصبح وزيرًا للنقل فى حكومة الدكتور الجنزورى ٢٠١١، ثم عين محافظًا للقاهرة ٢٠١٣ فى حكومة الدكتور حازم الببلاوى، ثم عاد وزيرًا للنقل فى تعديل وزارى لحكومة شريف إسماعيل ٢٠١٦، قبل أن يتم استبعاده مؤخرًا.
والحال كذلك يؤكد أن لا معايير حقيقية نلتمسها؛ أو أن المعايير شخصية بالأساس، إذ تبدو كل هذه المناصب لائقة ومتماشية مع قدرات الرجل الذى أخرجناه مؤخرًا إلى منزله! قيل إن الصين انسحبت من الاستثمار فى العاصمة الإدارية الجديدة، وقيل إن المشروع برمته خارج موازنة الدولة!، إذن من أين يتم الإنفاق على المشروع؟ وما دراسات الجدوى المتعلقة به؟ ومن قام بها؟ ومن ناقشها؟ ومن هيأ لها كل هذا الزخم الشعبى؟!
عادتنا ولن نشتريها، نقيم الدنيا، ولا نقعدها أبدًا إلا بعد أن نثير الرأى العام، ونزيد من ضبابية الصورة أمام الناس.
ملفات شتى نفتحها بجسارة ونصنع منها بطولات وهمية، ثم لا شيء على الإطلاق! خذ عندك: الموجة التى استبقت إقالة أو استقالة وزير التموين الأسبق الدكتور خالد حنفى، وقيل إن الرجل ينام فى فندق بالملايين، وقيل متورط فى قضايا فساد القمح، واشتعلت الفضائيات لأيام وليال، ثم لا شيء على الإطلاق نذكره الآن. بينما الناس تلهث وراء الارتفاعات الجنونية للأسعار، ولا وقت لديها لتسأل، ولا أحد يريد أن يجيب من نفسه.
الشفافية إذن، عكس السرية، وحدها القادرة، عن طريق الإعلام، على خلق مشاركة مجتمعية يومية فعالة فى العملية السياسية، أما ركن الناس على جنب!، واستدعاء تأييدهم أوقات الشدائد و«القرارات المؤلمة»، أو استجداء مشاركاتهم أوقات الاستفتاءات والانتخابات، فلن يجدى نفعًا لقوم يستهدفون «دولة مدنية حديثة».
وإلى الأسبوع المقبل بإذن الله.