فى منتصف الثمانينيات، وتحديدًا من عام ١٩٨٥ إلى ١٩٨٦، بدأت الجماعة الإسلامية العودة مرة أخرى إلى مزاولة نشاطها داخل الجبهات المصرية، بعد أن تلقت ضربة قاصمة، عقب أحداث عام ١٩٨١، التى انتهت بمقتل الرئيس الراحل أنور السادات، ومحاولتها الاستيلاء على مديرية أمن أسيوط. واستطاعت «الجماعة» حينها نشر فوضى عارمة فى البلاد، وتم إلقاء القبض على عدد كبير من أعضائها، كان أغلبهم طلابًا فى الجامعات المصرية المختلفة، رغم تمركزهم فى جامعتى أسيوط والمنيا.
فى هذا الوقت تحديدًا، فكّر قيادات الجماعة الإسلامية وهى إحدى أذرع جماعة الإخوان المسلمين، فى ابتكار طريقة جديدة لاستقطاب الشباب، بدلًا من تجنيدهم فى الجامعات، وهى تكتيك اكتشفوا أنه غير مُجدٍ، لأن الشاب فى هذه الفترة قد تختلط عليه الأفكار والثقافات. فلجأوا إلى حيلتهم الجهنمية، عن طريق أعضاء الجماعة المنتشرين فى كليات التربية، فهؤلاء يعملون بعد تخرجهم مدرسين فى وزارة التربية والتعليم، بمراحلها الدراسية المختلفة، حيث انصب تركيزهم على السيطرة على مدارس المعلمين والمعلمات التى كانت تخرّج معلمى المراحل الابتدائية والإعدادية. هؤلاء المعلمون كانوا الذراع الطولى للجماعات المتطرفة، حيث كانوا مكلفين بتنفيذ خطط الجماعة الإسلامية، وتحويل النشء الصغير منذ المرحلة الابتدائية إلى مشروع متطرف أو إرهابى، يصعب السيطرة عليه، أو إعادته إلى الاعتدال مرة أخرى، بعد أن يغذوا رؤوسهم بالتطرف من الصغر.
هذه الخطة جعلت الجماعة الإسلامية فى محافظة أسيوط، خلال أربع أو خمس سنوات، تمتلك جيشًا من المتطرفين الصغار، خاصة فى مدينة ديروط، التى تحول تلاميذ مدارسها «خاصة مدارس الثانوى الفنى، الزراعى والصناعى منها»، من شباب مصرى محب، إلى شباب منتمين للجماعة الإسلامية فقط، ولا يرون فى الوطن سوى هذا الانتماء الفكرى المتطرف، مما صعّب من مهمة أجهزة الأمن وقتها فى الوصول لأغلب هؤلاء، لأنهم غير مسجلين أمنيًا.
وكان دور هؤلاء الصغار أكثر خطورة من الكبار، حيث كانت قيادات الجماعة الإسلامية تستخدمهم لنقل المعلومات بين أعضائها فى القرى والنجوع، وأحيانًا كانوا ينقلون الأسلحة والذخيرة، لأن الأمن حينها لا يمكن أن يشك فى هؤلاء الصغار! حتى طلاب الثانوى الصناعى، استخدموا بعضهم من طلاب قسم «حداد وبرادة» فى تحويل أسلحة ومسدسات الصوت إلى أسلحة حيّة تطلق الرصاص القاتل!
واستطاعت الجماعة الإسلامية فى ذلك الوقت، تكوين ما يسمى «الجيل الرابع» من هؤلاء الصغار، ما صعب على الدولة معرفتهم أو الوصول إليهم بعد القبض على قيادات الجماعة الكبار، مما جعل المواجهة بين الجماعة الإسلامية وأجهزة الأمن تطول لأكثر من ٨ سنوات متواصلة فى الصعيد.
إن تغيير الأفكار من الصغر منهجية اعتمدت عليها الجماعة الإسلامية، ويرتكن إليها المتطرفون فى الغالب الأعم، وهى نفس الطريقة التى تستطيع أن تستخدمها المؤسسات الدينية فى تجديد الخطاب الدينى.
فالأزهر والأوقاف ووزارة الثقافة ووزارة التعليم، مطالبة بتغيير المناهج طبقًا لخطاب دينى معتدل متسامح، يخدم الوطن ويقوى من عزيمة المجتمع وترابطه، فهؤلاء الأطفال هم المستقبل، وهم من نستطيع تشكيل أفكارهم بالفكر السليم، أما حكاية المؤتمرات والندوات والخطب التى نشاهدها كل يوم فى الفضائيات والصحف والمجلات، والأحاديث المتكررة حول تجديد الخطاب الدينى، فلا جدوى منها، ولن تؤتي ثمارها أبدًا.
علينا أن نوفر الأموال التى تنفق على المؤتمرات والندوات، لنضعها فى مناهج يشرف عليها الأزهر الشريف، للبدء فى تعليم النشء مفاهيم الدين الصحيح من الصغر، لأن جميع محاولات تغيير أفكار الكبار ستبوء بالفشل.
نحن نحتاج إلى خطط حقيقية ومدروسة لحماية الأجيال القادمة من التطرف، ويقينًا، سوف تؤتى ثمارها بعد سنوات قليلة، حتى لو طالت هذه السنوات، فإنها فى النهاية ستؤدى إلى تغيير حقيقى للمفاهيم، واستيعاب حقيقى للخطاب الدينى.
إن الكلام بشكل مستمر عن تجديد الخطاب الدينى فى وسائل الإعلام، جعل الجميع يتشكك فى المقصود منه، خصوصًا أن البعض لا يعرف معنى تجديد الخطاب الدينى، ومن هم المجددون، ومن هم أيضًا المستهدفون من هذا التجديد؟ إننا نشاهد الآن بعضًا ممن يتكلمون عن تجديد الخطاب الدينى لا يصلحون أصلًا للكلام فى الدين، ولا يملكون أفكارًا أو خططًا، وكل ما يقولونه فى هذا الشأن منفر للجميع.
لذا علينا مراجعة الخطط والأشخاص والهيئات التى تتصدر مشهد تجديد الخطاب الدينى، لعلنا على الأمد الطويل، نتخلص من الأفكار المتطرفة.