الديمقراطية قيمة سامية، تمثل نزوع الإنسان الفطرى إلى الحرية، وهى كنظام سياسي، تعد أفضل صيغة لإدارة الشأن العام، ولتداول السلطة سلميًا. وقد شهدت الأرض العربية تجارب حديثة فى الديمقراطية، عقب الاحتكاك الحضارى بالغرب طوال قرن من الزمان، وهى تجارب تعرضت لإخفاقات وعثرات، مما دفع المفكر البحرينى الدكتور محمد جابر الأنصارى للتساؤل متحسرًا: لماذا سقطت أقدم وأكبر ديمقراطية فى العالم العربي، متمثلة فى النظام الملكى الدستورى المصرى (دستور ١٩٢٣)، الذى كان رغم سوءاته، مظلة النهضة الوطنية المصرية، التعليمية والفكرية والسياسية والاقتصادية والتنموية والفنية؟!
وجاءت انتفاضات «الربيع العربي» منادية بأهدافها: الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والحياة الكريمة، وكانت النتائج كارثية زلزلت الدولة العربية وقوضت أركانها، وأثارت الفوضى والاضطرابات فى أرجاء بلادها، وصارت طاردة لشبابها.
ويعلل الأنصارى إخفاق الثورة المصرية فى تحقيق الديمقراطية، فى كتابه النقدى القيم «الناصرية بمنظور نقدي: أى دروس للمستقبل؟ تجربة فكر عبر نصف قرن»، وينتهى إلى ٣ دروس مهمة:
١- التحرر الذى نادت به الناصرية، كان ينبغى أن يكون تحريرًا للمواطن والمجتمع من أجهزة السلطة وفسادها فى المقام الأول، وألا يقتصر على التحرر من الاستعمار الخارجي، واستبدال تسلط داخلى بتسلط خارجى.
٢- إن النظامين الملكى والثورى تعاملا مع مسألة الديمقراطية تعاملًا جعل للتسلط الأولوية على المشورة وتبادل الرأي، وإن كان النظام الملكى أقرب إلى طبيعة الديمقراطية بحكم تركيبته التعددية ذات الشكل الليبرالي.
٣- إن النظامين انطويا على نوع من «فساد» الحكم، خاص بطبيعة كل منهما، كما افتقدا لإرادة الإصلاح الجدى من أجل البقاء والتطور.
أما المفكر السورى جورج طرابيشي، فيذهب فى كتيبه الرائع «فى ثقافة الديمقراطية» إلى أن إشكالية استزراع الديمقراطية فى الأرض العربية تعود إلى عاملين:
١- لقد فهمت الديمقراطية فى الأيديولوجيا العربية على أنها «ثمرة برسم القطف، لا بذرة برسم الزرع»، وأنها المفتاح لحل مشكلات المجتمعات العربية، والحل السحرى الذى يحقق النقلة الفجائية، بلا مجهود ولا كلفة ولا زمن، فهى الشرط السابق لكل شرط، بدونها لا شيء، وبها كل شيء، وهى الدواء لكل الأدواء.. ولكن ما يغيب عن الوعى الأيديولوجى أن الديمقراطية قبل أن تكون مفتاحًا لأى باب، وحلًا لكل مشكلة، بحاجة هى نفسها إلى مفتاح، وإذا كانت شرطًا مسبقًا، فهى نفسها تخضع للمشروطية.
٢- إن الديمقراطية قبل أن تكون آلية للحكم، فهى أيضًا ثقافة، فالثقافة الديمقراطية شرط لتخصيب التربة وإنمائها، وبدون ثقافة ديمقراطية، فإن الإجرائية أو الشكلانية الديمقراطية قد تنقلب وبالًا على الديمقراطية نفسها.
إن الديمقراطية ثقافة وقيم وممارسات ينشأ عليها الفرد منذ الطفولة، قبل أن تكون نظامًا سياسيًا، فهى لا تبدأ بشفافية الصندوق، بل بتربية متساوية، وتعليم منفتح، وخطاب دينى مؤنسن، وتشريع لا يفرق بين المواطنين، وقضاء لا يخضع إلا لسلطان ضمير القاضي، ومناصب مفتوحة للجميع، ثم قبل هذا وبعده «مجتمع مدني» يتفاعل نشاطًا وحيوية، ويكون حاضنًا وحارسًا لثقافة الديمقراطية وقيمها.
لا حل سحريًا لمشكلات المجتمع العربى إلا بتفعيل قول المولى تعالى فى محكم كتابه «إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ»، والتغيير إنما يبدأ من الداخل، من رؤى وتصورات وأفكار ومشاعر بناءة، تكوِّن شخصية الفرد المواطن وتهذب مسلكياته، وتدفعه إلى كل ما هو إنسانى وإيجابي.
وأخيرًا: علينا غرس الديمقراطية، قيمًا ومفاهيم وممارسات فى البيوت والمدارس والنوادى والجمعيات.. أولًا، فإذا ترسخت فى التربة المجتمعية، يأتى «النظام السياسي» إفرازًا متقدمًا لنظام اجتماعى ديمقراطي.
نقلا عن «الاتحاد الإماراتي»