إن الكوليرا فى مصر لم تكن أبدًا مقرونةً بالحب كما كان الحال فى رواية جابرييل جارسيا ماركيز، بل كانت مرتبطة بالموت والجوع والحزن، أما العلاقة بين ما حدث من انتشار فيروس الكوليرا فى العام ١٩٤٧ وانتشار فيروس الجوع فى العام ٢٠١٧ فهى علاقةٌ وثيقة لأن الحدثيْن بينهما عديدٌ من القواسم المشتركة التى نستطيع أن نتبينها ببعض التحليل للظواهر الحاكمة لكلا الحدثيْن علاوةً على طبيعة الأحداث المصاحبة لهما.
فى البداية لا بد أن ندرك أن كلا الفيروسيْن سريع الانتشار، ويصعب التحكم فيهما إذا هما خرجا عن السيطرة، مما قد يخلف ضحايا كثيرين، وتُعرف عملية انتشار الفيروس بالعدوى، التى يمكن أن تنتقل من مكانٍ إلى آخر، مما يلزم معه بذل مجهوداتٍ ضخمة لمحاولة السيطرة على الأماكن الموبوءة.
والقاسم المشترك فى طريقة انتشار فيروس الكوليرا فى العام ١٩٤٧ وفيروس الجوع فى أوائل العام ٢٠١٧ هو أن كلا الفيروسيْن سلكا طريقًا واحدًا فى أسلوب انتشار العدوى؛ فكلاهما ظهر لأول مرة فى قرية «القرين» والتى أصبحت الآن مدينة بمحافظة الشرقية بالقرب من محافظة الإسماعيلية، حيث قام أهالى مدينة «القرين» فى الثامن من فبراير الماضى باقتحام سيارة تموين كانت محملة بالسلع ونهب ما كانت تحمله من زيت وسكر وأرز قبل تخزينها، وقام الأهالى برصد السيارة وتجمهروا حولها ولم يتمكن السائق من السيطرة على الموقف. وذكر شهود العيان أن الفوضى كانت كبيرة والوضع كان سيئًا للغاية، فعلى الرغم من أن المواطن من حقه الحصول على كيس سكر، كان المواطن يحمل «باكت» سكر بيدٍ واحدة به ١٠ كيلو سكر.
وضرب فيروس الكوليرا عام ١٩٤٧ وفيروس الجوع عام ٢٠١٧ بعد «القرين» منطقة بلبيس بمحافظة الشرقية أيضًا، ولم يفصل بين الحدثيْن سوى أيام؛ حيث ظهرت ملامح فيروس الجوع فى قرية «الجوسق» التابعة لدائرة مركز بلبيس، حيث قام الأهالى بالاستيلاء على سيارة محملة بـ٥٥ طن سكر تموينى قبل توزيعها على تجار التجزئة بالقرية. وأكد الأهالى أن غلاء الأسعار ونقص المواد التموينية وجشع التجار وتخزينهم للمواد الغذائية، هو ما دفعهم للاستيلاء على حمولة السيارة بالقوة، ليدقوا ناقوسَ خطرٍ بمزيدٍ من الانتشار لفيروس الجوع الذى يلتهم البطونَ الخاوية.
وإذا كان لابن إياس تفسير سياسي وديني لتكرار تفشى الطاعون حيث يقول «كَثُرَ بمصر الزنا واللواط وشرب الخمر وأكل الربا وجَوْر المماليك فى حق الناس»، معتمدًا على الحديث النبوى الذى يقول «مَا مِنْ قَوْمٍ يَظْهَرُ فِيهِم الزِنَا إلا أُخُذِوا بالفَنَاء»، وإذا كان الملك الأشرف قنصوه الغورى عند تفشى الطاعون فى العام ١٥٠٥ ميلادية أظهر ميلاً إلى العدل والورع تقربًا لله ليرفع البلاء؛ فأبطل الضرائب ودعا الناس للإقلاع عن المعاصى،. فإنه فى العام ٢٠١٧ كان للسلفيين تفسير ديني ذو غطاءٍ سياسى كذلك لغلاء الأسعار؛ حيث ذكر رئيس الهيئة البرلمانية لحزب «النور» الذراع السياسية للدعوة السلفية «أن من ينظر للمعاصى التى ترتكب فى الشارع المصرى يقول إن رغيف الخبز سيصل ثمنه إلى مائة جنيه»، وهو ربطٌ متعسف بين الدين والأسعار، لأن هناك دولا كافرة من وجهة نظر السلفيين لا تؤمنُ أساسًا بوجود الله، ورغم ذلك لا تعانى مما يعانيه المواطنون فى مصر.
ولا شك أن القوات المسلحة المصرية قامت بدورها الوطنى فى مكافحة فيروس الكوليرا عام ١٩٤٧ كما سبق وذكرنا تفصيلاً فى المقال الماضى، كما بذلت - وما زالت - جهودًا حثيثة فى محاولة عدم وصول فيروس الجوع إلى أرجاء البلاد فى الوقت الراهن من خلال السيارات المحملة بالسلع الغذائية المخفضة والمنتشرة فى كل ربوع مصر للتخفيف عن محدودى الدخل وتوفير الطعام للأفواه الجائعة لتحصينهم من فيروس الجوع اللعين، والذى يعنى انتشاره فى البلاد تهديدًا مباشرًا للأمن القومى المصرى. وقد نجحت هذه الجهود فى منع وصول هذا الفيروس إلى القاهرة الكبرى، رغم مضى ما يزيد علي أربعة شهور على القرارات الاقتصادية التى وُصفت بـ «المؤلمة».
إلا أنه يوم الثلاثاء الماضى أفاقت مصر على انتشار غير مسبوق لفيروس الجوع فى مصر استتبعته تجمعات للأهالى فى مناطق مختلفة من البلاد فى كفر الشيخ والإسكندرية والمنيا وأسيوط، كما استطاع الفيروس أن يصل – لأول مرة – إلى القاهرة الكبرى ليضرب منطقة إمبابة بمحافظة الجيزة، وهو ما يُنذر بمشكلات وأعراض غير مسبوقة. وكان السبب المباشر لذلك قرار وزير التموين الجديد د. على مصيلحى الذى لم يمضِ على تكليفه بالوزارة سوى أسبوعيْن. ويقضى هذا القرار بتخفيض عدد الأرغفة التى يحصل عليها محدودو الدخل من ٢٠٠٠-٤٠٠٠ رغيف إلى ٥٠٠ رغيف فقط من المخابز المقيد عليها المواطنون من غير أصحاب البطاقات أو حاملى البطاقات الورقية، ليفسد الوزير كل الجهود التى تقوم بها القوات المسلحة فى مساعدة الناس على تخطى الظروف الصعبة التى تمر بها البلاد.
لقد جاء قرار الوزير دون دراسة، ودون نقاش مجتمعى، ولا استطلاع رأى المواطنين فى منظومة الخبز الحالية، ولا توافر قاعدة معلوماتية يُؤسس عليها قرار يمس الحياة اليومية للمواطنين، ولا استخراج بطاقات إلكترونية لمن يحمل بطاقات ورقية. والمصيبة الكبرى أن الوزير صرح فى مؤتمر صحفى عقده يوم الأزمة نصا بقوله: «الحمد لله إن ده حصل والناس ما لقيتش عيش النهارده علشان نناقش القضية»، وهو تفكير عجيب؛ فبدلا من أن يقوم الوزير بحل الأزمات التى تواجه وزارته، وبدلا من الإنصات باهتمام لتوجيهات الرئيس عبد الفتاح السيسى التى لا يسأم من تكرارها بتوسيع مظلة الحماية الاجتماعية لمحدوى الدخل، بدلا من كل ذلك نجد الوزير يصنع أزمةً بكلتا يديه، أزمةً أدت إلى انتشار فيروس الجوع واحتجاجات «الخبز» فى بِقَاعٍ كثيرة من أرض الوطن، أزمةً تؤدى إلى عرقلة الإصلاحات الاقتصادية التى تحاول الدولة إنجاحها للخروج بالوطن من عنق الزجاجة.
إن الأزمة التى خلقها الوزير سوف تستلزم جهودًا ضخمة من القوات المسلحة وأجهزة الدولة لمحاصرة تجلياتها، جهودًا أكثر بكثير مما كان يُبذل من قبل لمواجهة وحصار فيروس الجوع الذى تنبأنا بانتشاره وبدأنا فى كتابة هذه السلسلة عنه منذ ثلاثة أسابيعٍ مضت، وهذه الجهود نُفرد لها مقالنا القادم.. انتظرونا.!.