ابتداءً أود أن أعترف بإعجاب مسبق بنقولا حداد، فهو عم شهيدنا د. فريد حداد، الذى جمعتنى به وأنا لم أزل فتى صغير السن زنزانة ضيقة فى قسم شرطة المنصورة لعديد من الأشهر، وعلى يديه تعلمت واستمعت واستمتعت بحواراته الهادئة والمتقنة مع أستاذ آخر، هو الأستاذ أمين تكلا، مدرس الفيزياء بمدرسة الملك الكامل الثانوية بالمنصورة، كان الاثنان متماسكين بهدوء رصين نادرا ما ينفعل أحدهما أو يدعى ثورية فى غير موضعها، ومنهما تعلمت ولم أزل، كذلك أتذكر كل يوم نقولا حداد وأنا صاعد إلى المقر المركزى لحزب التجمع، ففيه كان نادى طائفة الروم الكاثوليك، وهناك تمترس نقولا حداد، ليرأس النادى، وليحوله بهدوء ودون ضجيج إلى مدرسة يلقى فيها محاضراته الأسبوعية وليعقد ندواته.. وفيه قضى ليلته الأخيرة، أتى موعد المحاضرة، وحرارته أربعون، وصمم ألا يخذل مستمعيه وألقى المحاضرة وفيما يمشى فى شارع قصر النيل متجها إلى بيته رحل بهدوء.. كما عاش بهدوء.
ثم نبدأ.. أتى نقولا الحداد، إلى مصر فى مطلع القرن العشرين، أتى كغيره من المثقفين الشوام فرارا من العسف العثمانى، الذى أغلق أفواها وكسر أقلام الجميع، ويحكى فى إحدى كتاباته كيف استمتع بجلسات قهوة متانيا وما فيها من خطب وإنشاد لقصائد كبار شعراء هذه الفترة، وتوقف كثيرا أمام أبيات شعر أنشدها عبدالله النديم، العائد من المنفي، وأكثر من مرة يكررها نقولا الحداد.
إذ ما الدهر صافانا مرضنا وإن عدنا إلى خطب شُفينا
صلينا يا هموم فقد عرفنــا بأنا الصلـب صلبا لا يلينا
لنا جلد على جلد يقينــــــــا إذا زاد البلا زدنا يقينـــــا
وإذا كان كثير من المثقفين الشوام الذين وفدوا لمصر، قد انبهروا بما تركه لهم الحاكم البريطانى «لورد كرومر» من حرية فى الكتابة الصحفية أو إصدار الكتب ليقولوا أى شيء فى أى مجال فكرى أو دينى أو علمى ما داموا لم يمسوا سلطات الاحتلال والقضية الوطنية المصرية، فإن اثنين فقط رفضا هذا الموقف لأنهما نظرا إلى واقع الشعب المصرى وتعاطفا مع قضاياه ثم تلاحما معها ومعه وخاضا معركة المصريين ضد الاحتلال، وهكذا عاشا كمصريين وكتبا كمصريين وتقبل الشعب المصرى كتاباتهما ونضالاتهما كمصريين، ويعلن نقولا الحداد، موقفا واضحا ساطعا مع الشعب المصرى وقضية تحرره، ففى الوقت الذى أهدى فيه أحد القادمين الشوام كتابا له إلى كرومر ونشر صورة كرومر على غلاف كتابه وتحتها عبارة «منقذ مصر» كتب نقولا الحداد مقالا قال فيه «إن تحرير مصر من الاحتلال الإنجليزى هو أمنية كل مصري، وما من مصرى يقبل مناقشة فيه، ولو قلت له إن هؤلاء الإنجليز من خدم النبى محمد لأصر على القول، لا أريدهم فهو فى هذا الأمر لا يقبل مناقشة»، وفى مصر التقى نقولا مع مفكر شامى آخر، هو «فرح أنطون» واتفقت مشاربهما على رفض الاحتلال والمشاركة فى معركة الشعب المصرى وفى معركة تحرره، وعندما أتت «روز» شقيقة فرح، كانت هى أيضا تتقد ثورية وتزوجها نقولا، ومن هذه اللحظة أصبح من الصعب الكتابة عن أحدهما منفصلا عن الآخر، وتروى «روز» قصة حضورها إلى مصر فى مجلة «السيدات والرجال» التى ساعدها فرح ونقولا فى إصدارها «السنة الرابعة- عدد سبتمبر ١٩٢٣- ص ١٢٣» فتقول «كان فرح ينتظر حتى ينتهى أخوه من دراسته الجامعية فى الشام كى يحضر إلى مصر ليعاونه فى نشاطه، لكن أخاه يموت عقب إنهاء دراسته مباشرة فتكتب إليه روز، إنى شاعرة بخسارة العائلة، وأرى أنك خسرت أخا كان ينتظر أن يكون مساعدا لك، فأود أن أكون أنا مساعدة لك بدل الأخ الذى فقدناه وأشعر أننى أستطيع ذلك» ويرفض فرح.. لكن روز أصرت وحضرت لتقوم بمساعدة فرح فى مجلة «السيدات والبنات»، ولتكتب فيها مقالات غاية فى الرقة والإبداع وتفيض بثقافة موسوعية كثقافة أخيها فرح، وقد ردد البعض أن مقالات روز فى مجلة «السيدات والبنات» هى فى واقع الأمر بقلم فرح أنطون، وينفى فرحا، ذلك بشدة، مؤكدا أنه هو الذى يستفيد من روز ومن أصالة رأيها، وأنه ما من مقال كتبه فى مجلة الجامعة إلا وعرضه عليها لتبدى رأيها فيه وأنه دائما يضع رأيها فى الاعتبار. المهم أصبح هناك ثالوث مستنير بزواج نقولا بروز، وعملوا معا فى معركة الكتابة والثقافة والفكر المتحرر والليبرالية. ونكمل قصة الثالوث فى عدد «السيدات والرجال» «المرجع السابق» ونقرأ «وفى سنة ١٩٠٧ اقترح على فرح، ابن عمة الخواجة إلياس أنطون، التاجر فى نيويورك، أن يرحل إلى أمريكا لتولى العمل الصحفى فيها على اعتقاد أن الجالية السورية هناك حقل واسع لبث المبادئ الحرة، واتفق الثالوث على السفر لإصدار مجلة الجامعة هناك وكانت الجامعة تتعثر بسبب ضعف الإمكانيات ومطاردات سلطة الاحتلال» ويسافر الثلاثة « فرح – روز- نقولا» وبينما كانت «الجامعة» تتعثر أيضا فى نيويورك بسبب الأزمات المالية، وقلة المهتمين بالقراءة من الجالية السورية، هزت العالم أنباء الانقلاب العثماني، وكان فرح بعيدا عن نيويورك، فيكتب إلى نقولا قائلا «إن سرورى بهذا الانقلاب كان عظيما حتى إنه مر على يومان وأنا لا أنام من شدة التأثر، لقد حان الوقت للعمل والنهوض بالأمم الشرقية التى استيقظت من سباتها» «المرجع السابق» واتفق الثلاثى على العودة، ولكن إذا كانت المهمة هى «النهوض بالأمم الشرقية» فلماذا إلى مصر بالذات؟ يقول نقولا «عندها عدت إلى مصر، الوطن الذى قضينا عهد الشبيبة فيه، وهو المركز الأوسط لجميع العالم، ومنه تنتشر الخدمة الوطنية الأدبية انتشار الأشعة إلى جميع الجهات».
وواصل نقولا الحداد.. معاركه. ونواصل معه.