أعجبنى هذا الفيلم.. فى رأيى هو أحسن أفلام المجموعة التى بدأت بها «سينما ٢٠١٧» فى مصر عروضها (يناير وفبراير)، إنه فيلم «يوم من الأيام»، الذى أخرجه محمد مصطفى، وكتبه وليد يوسف، ويعود به للإنتاج المنتج الكبير حسين القلا، وعندنا هو أحد أنضج ثلاثة أفلام فى هذه المجموعة، إلى جانب فيلم «مولانا» إخراج مجدى أحمد على، وسيناريو المخرج عن رواية إبراهيم عيسى بنفس العنوان، وحوار مؤلف الرواية، وفيلم «بشترى راجل»، الذى أخرجه محمد على، وكتبته إيناس لطفى، ولعل الأهمية الأساسية أو الأولى لفيلم «مولانا» ترجع إلى موضوعه والأفكار الجريئة ذات الصلة بقضايا الدين، ونحسب أن هذه هى المرة الأولى فى السينما المصرية، التى تثار فيها قضايا تتعلق بـ«السنة والشيعة السلفيين والمتصوفة، الجماعات ذات اللباس الدينى، وصلتها بأجهزة الأمن الصحيح وغير الصحيح فى إطار ما يعرف بصحيح البخارى ذاته..»، وكثير من القضايا الدقيقة، ضمن إطار وسرد سينمائى جذاب، وشخصية داعية خفيفة الظل بقدر ما هى عميقة واعية، وإن كانت شخصية «مركبة» تظهر بعض الحقيقة فى شجاعة، لكن تخفى الأكثر، اتقاء للعواقب!.. يحصل على المال الوفير لقاء برامجه التليفزيونية، وتصبح له علاقة ما بالعائلة الحاكمة (عائلة مبارك وولده جمال!..)، لكن هناك جدود لا يتعداها فى التنازلات، ويصعب التكهن بكل مواقفه التى يتخذها.. وقد أدى الشخصية بمهارة عمرو سعد، حتى لنحسب أن «مولانا» دور عمره ومشواره الفنى حتى الآن.
أما فيلم «بشترى راجل»، فلعل أهميته الأساسية أو الأولى ترجع إلى أنه يذكرنا بروح الكوميديا الاجتماعية الراقية، التى بعد فطين عبدالوهاب، قطبها ورمزها الأول فى السينما المصرية على مر تاريخها وحتى الآن.. والحق أنه دائمًا، وفى كل أحقاب السينما المصرية وليس حاليًا فحسب، يمكن القول: ما أكثر الأعمال التى تحاول «التعلق» بإطار أو معنى الكوميديا، وهى أبعد ما تكون عن ذلك، بل كم تكون غارقة فى الفكاهات السطحية وأحيانًا المسفة!.. ولذلك فإن من حق صناع فيلم «بشترى راجل» أن نذكر لهم أنهم استطاعوا تقديم كوميديا حقيقية مشوقة، وأنه بصرف النظر عن مدى النجاح تجاريًا فى دور العرض، فإن الأرجح أن هذا الفيلم سيلقى نجاحًا أوضح عند عرضه على شاشات التليفزيون.. ويؤكد الفيلم مقدرة نيللى كريم كممثلة كبيرة على التنوع ما بين أعمال درامية تراجيدية مؤثرة، شديدة الصعوبة وحافلة بالأحاسيس الداخلية القاسية كما شاهدنا فى عدد من أعمالها فى دراما التليفزيون، وأعمال كوميدية لطيفة خفيفة الظل كفيلم «بشترى راجل»، وكانت ذات حضور طاغ محبب طوال الوقت.. وإلى جانبها يصل لأول مرة محمد ممدوح إلى بطولة فيلم سينمائى، ونحسب أن هذا الفيلم هو إعلان مولده كبطل ونجم سينمائى لامع مشع وقدير، وقد كانت واضحة لنا إمكاناته بالغة التميز، ومدى عمق موهبته منذ أول دور رأيناه فيه، وها هى الأيام تثبت تفوقه وصعوده عن استحقاق..
لكننا نعتبر أن فيلم «يوم من الأيام» هو أكثر أفلام سينما ٢٠١٧ فى مصر حتى الآن اكتمالًا، بل وسيعتبر من أحسن أفلام هذا العام ككل على أى حال، بفضل نضج وتكامل عناصره، ومن أوله إلى آخره، بداية من السيناريو المكتوب بعناية ورهافة، مع تنبه طول الوقت للرؤية الأساسية للفيلم من دون تفرغ أو تشتت، فيما لا يغنى أو يضيف، إلى الإخراج الراقى الصادق وبجماليات حقيقية، من دون استعراض أو «محسنات»، فيما لا يفيد أو يساهم فى تجسيد الرؤية، وتدور رؤية الفيلم كلها وتنطلق، بل وتغرد.. كنشيد تمجيد للحب، وإعلاء لقيمته فى حياتنا فوق أية قيمة، وأنه ينبغى الانتصار له والوقوف إلى جانبه، والتغلب على مصاعبه، فى ظل كل الظروف، ومهما خيمت ظلمة أو أمسكت بالخناق مظالم وقسوة وقساة..! ويجسد الفيلم رؤيته عبر سفر حافلة من المنصورة إلى القاهرة، يقودها يوميًا سائقها (محمود حميدة)، الشخص بالغ الإنسانية والممتلئ بشجون وحكايا وروح رومانسية لا تغيب أو تخفت، وتجرى أحداث الفيلم عبر رحلة ذات يوم، ونكاد نرى مجمل حالنا ومجتمعنا من خلال النماذج البشرية والخطوط الدرامية التى تجمعت فى الرحلة، منذ بدايتها على رصيف المحطة إلى بلوغ غايتها..
وبقدر ما فرحنا بالراسخين محمود حميدة، فى فيلم «يوم من الأيام» فى أحد أجمل أدواره وواحد من أكثرها إنسانية وطيبة آسرة وثراء، ونيللى كريم فى فيلم «بشترى راجل»، فرحنا بالاجتهاد المتميز لعمرو سعد فى فيلم «مولانا»، وبأن نرى مجددًا مشيرة إسماعيل فى دور جميل مميز بفيلم «يوم من الأيام»، يشاركها قصتها وخطها الدرامى الفنان المخضرم القدير لطفى لبيب... وفرحنا بظهور ممثلين شباب رائعين مثل محمد ممدوح فى «بشترى راجل» وهبة مجدى وسامية عاطف فى «يوم من الأيام»... هذه أول بطولة لهبة مجدى، وهى تستحقها بحضورها اللطيف وأدائها الصادق المقنع، وإذا كان الفيلم هو مولدها كنجمة وبطلة لأفلام سينمائية، وفيلم «بشترى راجل» هو مولد ممدوح كنجم وبطل لأفلام سينمائية، فإن دور سامية عاطف لافت فى فيلم «يوم من الأيام»، فى شخصية الصعيدية التى تنتظر كلمة أو تعبير حب من زوجها ثلاثة عشر سنة، إذ إنه بدوره فرض عليه يومًا ألا يتزوج ممن أحب، حتى تتلقى زوجته منه أخيرًا هذه الكلمة والتعبير فى لحظة إنسانية مؤثرة ومصيرية خلال الرحلة.. وهذا الدور إلى جانب أدوار سامية الأخرى كما فى المسلسل التليفزيونى «هبة رجل الغراب»، يؤكد لدينا أنها نجمة وبطلة قادمة، جديرة بأدوار تلائم موهبتها المتميزة والمدرسة التى تنتمى إليها فى الأداء السلس التلقائى.. إنه السهل الممتنع، والذى تشعر معه أنها لا تمثل، بينما هى فى الحقيقة تكون تبرع وتبدع.
• دفتر الملاحظات.. عن المركز القدوة للجميع: يعجبنى موقف المركز الكاثوليكى المصرى من السينما، ومن الفن ووسائل التعبير والإبداع عامة، وقبل أيام انعقدت الدورة الخامسة والستون لمهرجانه السينمائى ذائع الصيت، الذى يلقى اهتمامًا واحترامًا على الدوام، من أهل الفنون والنقاد والمتذوقين على السواء. والمركز الكاثوليكى لا يهتم فحسب بالسينما، بل وبغيرها من الفنون كالموسيقى والغناء، ويستضيف فى هذا المهرجان وفى غيره (مثل: يوم العطاء)، مطربين وفرقًا غنائية وموسيقية، وقد استمتعنا فى الافتتاح الأنيق الجميل لمهرجانه هذا العام بفرقة يرعاها، مكونة من ثلاث مطربات وعازف، وجاء ما قدمته من أغنيات متنوعة فى منتهى العذوبة والرقى، فنيًا ورؤية ومعان سامية.
وأقول بغير مواربة، ومن دون تردد، أو خشية من إغضاب أحد، أن هذا المركز الكاثوليكى، وما يمثله دينيًا، هو صاحب موقف محترم راق من السينما ومن الفنون على العموم، وأن هذا الموقف هو مثال نموذجى حقيقى، يجب، أو على الأقل، نتمنى أن يكون قدوة وأن يحتذى، من جميع المراكز والمؤسسات التى تميز كل الديانات لدينا فى مصر، وسواء كانوا مسيحيين من غير الذين ينتمى إليهم «المركز الكاثوليكى»، أو كانوا مسلمين، وفى المقدمة مؤسسة الأزهر الشريف.. التى نتمنى أن يكون موقفها ذات يوم قريب من السينما والفنون، يماثل موقف هذا المركز الكاثوليكى المحترم.. ننتظر يومًا يشجع فيه «الأزهر» الفنون، ويقيم مسابقات للإبداع مماثلة.. وأن يكفّ عن أن يكون دوره غير متفهم، بل ومعيق أحيانًا.. مثلما اتجه للأسف الشديد إلى صبّ غضبه، وإلى تعنت وإصرار على المنع: تجاه فيلم سينمائى عظيم يشرف الدين والإنسانية وإبداعات الإنسان.. هو فيلم «الرسالة» لمخرجنا العربى العبقرى الشهيد مصطفى العقاد.وأن يحتذى، من جميع المراكز والمؤسسات التى تميز كل الديانات لدينا فى مصر.