يبدو أن إعجابى بشجاعة وثقافة ومسيرة رفيق جبور لم تزل قادرة على أن تستدرجنى لمزيد من البحث والدراسة، ومن ثم الكتابة ومزيد من الكتابة عنه، لكن ما أود الإشارة إليه هو الإبداع الفكرى والصحفى وكثرة الإنتاج التى لا يمكن تخيلها ففيما يستمر رفيق جبور ليحرر تقريبًا كل مقالات جريدة «الحساب» ويدير كثيرًا من التحركات الحزبية، فقد أسرع بترجمة كتاب نظرى عن الاشتراكية صدر بالفرنسية ونشره رفيق جبور بعنوان «المبادئ الاشتراكية» «إبريل ١٩٢٥».. وكذلك أبدع رفيق جبور فى مجال الأنشطة الجماهيرية التى ينظمها الحزب، ففى أول مايو ١٩٢٥م قرر جبور تحدى الجميع وكل المحظورات ولجأ إلى الرفاق اليونانيين وغيرهم من الإيطاليين والبلغار والأرمن، وفاجأوا الجميع فى الصباح الباكر ليوم أول مايو، وحشدوا عددًا كبيرًا من الرفاق المصريين، وفى أشهر ميادين بورسعيد احتشدت هذه الجموع معًا تتقدمها فرقة موسيقية يونانية، ثم طوابير منظمة لراكبى الدراجات، ثم حشود العمال المصريين والأجانب يوزعون ورودًا حمراء على الجماهير، وأسقط فى يد رجال الأمن، فالجميع منظمون ولا هتافات ولا لافتات وشكل العمال الأجانب عنصر حماية للجميع، وكذلك كان رفيق جبور أول من اكتشف وأدان من صفوف اليساريين الحركة الصهيونية، ففى عدد «الحساب» «١٨-٥-١٩٢٥» نقرأ تحت عنوان «بلفور يزور ضحيته وفلسطين تقابله بالإضراب العام»، وفيه شن هجومًا ضاريًا على بلفور، ووصفه بأنه «صاحب التصريح المشئوم الذى أصدره باسم الحكومة الإنجليزية، والذى بموجبه أعطيت فلسطين لليهود، وعندما زار بلفور فى أول مايو ١٩٢٥ قابله السكان فى كل مكان بالإعراب عن غضبهم واشمئزازهم». ويقول فى ختام المقال «إننا نحيى هذه النهضة البديعة فى فلسطين، ونأمل أن يواظب الفلسطينيون الكرام على أمجادهم وجهادهم فى سبيل استقلال بلادهم. وهم كمظلومين عليهم أن يضعوا أيديهم فى كل طبقة من طبقات العمال فى كل البلدان، فالطبقة العمالية مظلومة، وكل مظلوم للمظلوم نصيب».
وكان جبور صحفيًا بارعًا، فقد ابتكر فكرة أن ينشر فى كل عدد للحساب قصيدة من الشعر العامى للشاعر المبدع والواسع الشهرة فى ذلك الحين محمود رمزى نظيم الذى كان قياديًا فى الحزب وشاعرًا متألقًا وترجم له النشيد الأممى إلى اللغة العربية.. وليأذن لى القارئ أن أختتم الحلقة الأخيرة من سيرة ومسيرة رفيق جبور بأشعار لنظيم كتبها بمناسبة انعقاد أول جلسة للبرلمان الجديد، ونقرأ:
دوشونا ولا شيء جديد فلا غلب ولا حال سعيد
جموستى شركة العمدة وجحشى بتاع الشيخ والغفرا شهود
وزعبوطى المقطع من زمان هو الزعبوط والزفت العتيد
ثم هو يوجه حديثه للنواب قائلًا:
أدى حالتى مطينة تبكى فإيه اللى عملتوها يفيد
خششتوا البرلمان فكان حربًا على كام قرش يأخذها العميد
خنقتونا وزدتوها هبابًا على الفلاح فهل هذا حميد
ودى أنتم وضعتم وقعتم تحت أيدينا وللأيام تصريف مجيد
شفونا يا خلايق ده إحنا منكم ومن مصر وما احناش هنود
وشعرًا تشن الحساب حملتها دفاعًا عن حقوق العمال والفلاحين.. وإذ يرفض الحكام الاستجابة لهذه الحقوق، فإن نظيم يدعو العمال إلى «لم عزالهم»:
وسيبوا مصر للملاك تسكنها يجندوا جيشها من خير شجعان
وسيبوا النيل للأسياد تحرسه وقت العلو وقد أضحى كطوفان
وسيبوا الشغل للملاك تعمله فيصبحوا بين نجار وسنان
وساعدوهم على لم العزال وأنا سابق حميركم وحاطط ديلى فى أسنانى
ثم يقول:
يكفى بقى غلبنا يكفى فضيحتنا واللى جرى ينكتب فى كل جرنان
قال يتركونا وعن صحة سلامتنا لا يسألوا فى انتخاب جى من تانى
والاغنية بس مندوبون ينتخبوا للبرلمان فهم أرباب سلطان
والحاملين شهادات مقلوظة كالأغنياء.. فهم أصحاب عرفان
سبع وتسعين فى الميه مكممة وعن الكلام وإن كانوا كسحبان
أما الثلاثة فى المية فإنهم أمل الرياسة فى أنس وفى جان
فإن يقولوا فمصر كلها نطقت ومن بمصر سواهم غير جدعان
وأخيرًا.. ومرغمًا اكتفى بهذا القدر من حديث أعتقد أن رفيق جبور يستحق أكثر منه بكثير..
فإلى لقاء آخر من مفكر ومناضل آخر.