بعد وفاة النبى، ونظرًا لعدم وجود نظام لانتقال الحكم، سيختلف أمر العلاقة بين الدينى والدنيوى فى هذه المسألة فى شكل تدريجى متصاعد ما بين مرحلة الخلافة الراشدة، وما بعدها، وهو تاريخ طويل. فأبو بكر الصديق وصل إلى الخلافة «أو خلافة النبى فى منصب رئاسة الدولة» بما يمكن اعتباره نوعا من الانتخاب من النخبة فى المدينة. وكان حضور العامل الدينى فى هذا الانتخاب واضحا، والمتمثل فى مكانة أبى بكر وسابقته الإسلامية. لكن، كان هناك حضور واضح أيضًا لعامل دنيوى مهم حينذاك، وهو عامل القبيلة الذى عبر عنه أبو بكر نفسه عندما خاطب الأنصار فى السقيفة قائلًا: «والله لن ترضى العرب أن يحكمها إلا هذا الحى من قريش». وكان يشير بذلك إلى المهاجرين، وجميعهم من قبيلة قريش. أيهما كان الأكثر فاعلية فى فرض هذه الخلافة، عامل السابقة فى الإسلام، أم عامل القبيلة؟ هذا سؤال مهم وشائك يتطلب تفاصيل لا يتسع لها المقام هنا. لكن فى المحصلة يمكن القول إن السابقة، أو العامل الدينى، كان الأرجح نظرًا لحداثة التجربة، ولأن أبا بكر من تيم التى تعتبر من بين أضعف عصبيات قريش. لكن غياب عامل النبوة بوفاة النبى أفسح مجالًا أوسع لعامل القبيلة «قريش مقابل الأوس والخزرج»، وهو عامل سياسى - دنيوى، والذى على أساسه كانت غالبية الجدل تدور فى السقيفة حول من الأحق بخلافة النبى. يمكن أن نقول الشيء نفسه عن خلافة عمر بن الخطاب نظرًا لمكانته ودوره الكبيرين فى الإسلام، ولأنه فى الوقت ذاته كان من قبيلة عدى التى تعتبر أيضًا - مثل تيم - من بين أضعف عصبيات قريش. فى حال أبى بكر وعمر كان حضور العامل الدينى فى وصولهما إلى الخلافة هو الأقوى بين الخلفاء الراشدين. وهناك ما يشبه الاتفاق على أن هذه المرحلة كانت النموذج المثالى للخلافة كما وصفها ابن خلدون وغيره من الفقهاء والمؤرخين. لكن اللافت أن هذا النموذج شهد أخطر فتنة، أو حرب أهلية، عرفها صدر الإسلام، وذلك بعد مقتل الخليفة الثالث، عثمان بن عفان. وسميت الفتنة لأن قسمًا من الصحابة اقتتلوا فى حروب تداخلت فيها عوامل الدين مع مصالح الدنيا. وهو أمر يشير إلى أن حال الشد بين الدينى والسياسى وصلت درجة حرجة تسببت فى هذا الانفجار. ملاحظة أخرى لافتة وهى أن هذه المرحلة لم تستمر، بما فى ذلك الفتنة التى شهدتها أكثر من ٣٠ سنة من تاريخ يمتد الآن لـ ١٤٣٨ سنة، وهو ما دفع كثيرين إلى اعتبار هذه الخلافة مرحلة استثنائية غير قابلة للتكرار، ولا تجيز بالتالى الاستناد إليها وحدها لتقرير الطبيعة التى كانت عليها علاقة الدين بالدولة فى الإسلام. لكن أحد معالم الصراع أثناء الفتنة كان بين بنى أمية وبنى هاشم أقوى عصبيات قريش. واستمر بعد ذلك لزمن طويل. وهو استئناف لتنافس بين الطرفين كان من سمات المجتمع المكى قبل الإسلام. لا تنسب هذه الملاحظة المثالية النسبية إلى مرحلة الراشدين، لكنها تلفت النظر إلى أهمية التمييز بين ما قبل الفتنة وما بعدها، ودلالة ذلك بالنسبة إلى علاقة الدينى بالسياسى فى هذه المرحلة تحديدًا. يتفق الجميع تقريبًا على أنه بعد نهاية الخلافة الراشدة وظهور الدولة الأموية تغير الوضع فى شكل كبير. أصبح هناك تمييز رسمى وواضح بين المجالين الدينى والسياسى، وبين رجل الدين ورجل الدولة، وأن لكل منهما وظيفة تختلف عن الآخر، مقارنة بما كان عليه الوضع قبل ذلك. وهو ما يشير إلى أن سياق التاريخ السياسى الإسلامى انطوى على جذور ومؤشرات علمانية، وعلى العكس مما يعتقده كثيرون.
نقلًا عن العربية نت