يلقي الكاتب الكبير يعقوب الشاروني مساء اليوم الثلاثاء؛ شهادة في حفل تأبين شقيقه الأكبر يوسف الشاروني بمعرض مسقط الدولي للكتاب خلال ندوة "يوسف الشارونى.. مبدعًا وناقدًا"، وستكون الكلمة بعنوان "يوسف الشارونى إنسانًا".
وحصلت "البوابة نيوز" على جزء من كلمة يعقوب الشاروني والتي جاء نصها كالتالي:
أبدأُ بصورةٍ انطبعَتْ فى ذاكرتى لا تمحوها الأيامُ، حدثت فى منتصفِ الأربعينياتِ من القرن الماضى:
اقتربَ موعدُ السفرِ، وتَهيَّأ الأخُ الأكبرُ للخروجِ بصحبةِ الصديقَيْنِ أحمد بهاءِ الدينِ وفتحى غانم ليكونا فى وداعِهِ، وهو مسافرٌ إلى السودانِ حيث سيعملُ مدرسًا فى الخرطومِ.
لكن المفأجاةَ كانَتْ فى انتظارِ الصديقَيْنِ، فقد ارتفعَتْ حرارةُ الأخِ الأكبرِ مع آلامٍ شديدةٍ فى المعدةِ.
وبدلًا من الذهابِ إلى محطةِ القطارِ المُتَّجهِ إلى أسوانَ ( وبعدها الباخرةِ المتجهةِ إلى السودانِ )، ذهبَ الأصدقاءُ الثلاثةُ إلى الطبيبِ.
لم يجدِ الطبيبُ سببًا مُحدَّدًا للمرضِ.
بعدَ ساعاتٍ قليلةٍ، عندما فاتَ موعدُ القطارِ، اختفَتْ كلُّ أعراضِ المرضِ.
قالَ الطبيبُ ضاحكًا: " إنكَ نفسيًّا لم تستطعْ الابتعادَ عن كتبِكِ وأصدقائِكَ بالقاهرةِ ! "
قالَ الصديقانِ: " بل قُلْ هى حساسيةُ الأديبِ الفنانِ، فهو " عريسٌ " جديدٌ، رأى أن يسبقَ عروسَهُ، لكنْ يبدو أنه لا يرغبُ فى السفرِ إلا وهى معَهُ !! "
- هذه حادثةٌ لا أنساها، عاشَها فى بداية حياتِه العملية أخى الأكبرُ يوسفُ الشارونى، الذى ملأ حياتى منذُ كنتُ فى المدرسةِ الابتدائيةِ، بكتبِ الأدبِ والنقدِ والفلسفةِ وعلمِ النفسِ، وبأحاديثِهِ مع أصدقائِهِ الذين تألَّقوا معه جميعًا فى سماءِ الأدبِ والفكرِ والفنِّ، ومن بينهم الأساتذةُ أحمدُ بهاءُ الدين وفتحى غانم وأنيس منصور وعبد الرحمن الشرقاوى ود. مصطفى سويف وبدر الديب.
***
إنها صورةٌ تكشفُ، على نحوٍ مكثفٍ، عن جوانبَ مختلفةٍ تُفصِحُ عن شخصيةِ أخى الكاتبِ الكبيرِ وأولِ أساتذتى، يوسف الشارونى.
ذلك أننى عندما كنتُ فى الرابعةِ الابتدائيةِ، كانَ أخى الأكبرُ يوسفُ فى السنةِ الأولى بقسمِ الفلسفةِ وعلمِ النفسِ فى كليةِ الآدابِ بجامعةِ فؤاد الأول ( القاهرة الآن ).
وهكذا امتلأ البيتُ حولى، منذ بلغتُ العاشرةَ من عمرى، بالمسرحياتِ والرواياتِ التى كانت قد صدرَتْ فى ذلك الوقتِ ( 1941 - 1945 ) لتوفيق الحكيم، الذى تعلمنا منه جميعًا فنَّ الحوارِ وأسرارَه، وبكتبِ علمِ النفسِ للدكتور يوسف مراد، وكتبِ الفلسفةِ للدكتورِ عثمان أمين حتى إننى كنتُ واحدًا من ثلاثةٍ نجحوا وحدَهم على مستوى مصرَ، فى مسابقةِ الفلسفةِ التى كانت تقيمُها وزارةُ التربيةِ والتعليمِ لطلابِ السنةِ النهائيةِ من التعليمِ الثانوىِّ.
وأذكر، عندما أحضرَ لى أخى يوسف رواياتِ نجيب محفوظ الأولى، وأنا فى بداية المرحلة الثانوية، (وكان عمرى 11 سنة)، أنه قالَ كأنما يتنبأ: " إنه أعظمُ كاتبِ روايةٍ باللغةِ العربيةِ، وقد يحصلُ يومًا على جائزةِ نوبل ".. ولعله قالَ هذه العبارةَ ليثيرَ حماسى لكاتبٍ لم أكن قد قرأت له من قبلُ، لكننى كنتُ أتذكرُها دائمًا كلما انتهيتُ من قراءةِ إحدى رواياتِ كاتبِنا الكبيرِ. وعندما حصلَ أستاذُنا نجيب محفوظ على الجائزةِ عامَ 1988، استعدتُ بقوةٍ كلماتِ أخى يوسف الشارونى، الذى أدركَ بحسِّه الفنىِّ المُرهَفِ أننا أمامَ روائىٍّ مصرىٍّ يستطيعُ أن يضارعَ أكبرَ أدباءِ العالمِ.
وكان أخى يوسف هو الذى اصطحبَنى إلى أولِ لقاءٍ لى مع كاتبِنا الكبيرِ نجيب محفوظ، عندما كان يعقدُ ندوتَه الأسبوعيةَ بكازينو أوبرا فى وسطِ القاهرةِ.
أصدقاءُ يوسف الشارونى:
كذلك امتلأ بيتُنا بعددٍ كبيرٍ من أصدقاءِ أخى يوسف، مما أتاحَ لى الاستماعَ، فى تلك السنِّ المبكرةِ، إلى كثيرٍ من المناقشاتِ والآراءِ، وقراءةَ عددٍ كبيرٍ من المخطوطاتِ لأعمالٍ أدبيةٍ وفى مجالِ الدراساتِ النفسيةِ، مما صقلَ موهبتى الأدبيةَ، وأثارَ اهتمامى المبكرَ بقضايا وحقائق نفسية وتربوية وآراءٍ متعددةٍ ما كان يمكنُ أن يتعرفَ عليها من كانوا فى مثلِ سنِّى فى ذلك الوقتِ، وأفادَنى هذا كثيرًا وأنا أكتبُ بعدئذٍ للأطفالِ والشبابِ الصغيرِ، كذلك وأنا أختار كتبى لمكتبتى الخاصة.
- ومن بينِ ما أذكرُه، أنه فى حوالَىْ عام 1951، عندما كنتُ طالبًا فى السنةِ النهائيةِ بكليةِ الحقوقِ بجامعةِ القاهرةِ، أعطانى أخى يوسف رسالةً وصلَتْ إليه من باريسَ.. كانَ الشاعرُ الكبيرُ الأستاذُ عبدُ الرحمنِ الشرقاوى فى بعثةٍ إلى باريسَ لمدةِ عامٍ، وأرسلَ من هناك إلى أخى يوسف مخطوطَ قصيدتِه الرائعةِ " من أبٍ مصرىٍّ إلى الرئيسِ ترومان " - وكعادةِ أخى أشركَنى معه فى الاستمتاعِ بالقصيدةِ وتذوقِها، لكى يرسلَ بعدئذٍ انطباعَه عنها إلى صديقِه، الذى أصبحَ من أعلامِ الشعرِ والروايةِ فى مصرَ والعالمِ العربىِّ.
وهكذا كان أخى الأكبر يساهمُ فى تنميةِ تذوقى للشعرِ وغيرِه من الفنونِ، ومن أهمها القصة، كما ساهمَ فى تنميةِ جوانبَ أخرى متعددةٍ من حياتى وحياةِ إخوتى، بل وحياة عدد كبير من شباب المبدعين.
يوسفُ والثقافةُ الموسيقيةُ:
وكانت الثقافةُ الموسيقيةُ من بينِ الخبراتِ المبكرةِ التى أتاحَها يوسف الشارونى لى ولإخوتى فى ذلك الزمنِ المبكرِ من حياتِنا.
لقد لاحظَ عددٌ كبيرٌ من النقادِ، أنه توجدُ فى كثيرٍ من قصصِ الشارونى " ألحانٌ متقابلةٌ "، أو نغمةٌ أساسيةٌ أو رئيسيةٌ، تعقبُها وتحيطُ بها تداعياتٌ تنتقلُ بالقصةِ من الخاصِّ إلى العامِّ، أو من العالمِ الخارجىِّ إلى العالمِ الداخلىِّ، أو العكسُ، ثم لا تلبثُ النغمةُ الرئيسيةُ أن تعودَ أكثرَ قوةً ووضوحًا، وهو ما اعتدْتُ أن أسمِّيَه " تنويعاتٍ ومقابلاتٍ على اللحنِ الأساسىِّ ".
والحقيقةُ أن ملاحظاتِ هؤلاء النقادِ حولَ المقارنةِ بين قصصِ يوسف الشارونى والأعمالِ الموسيقيةِ صادقةٌ جدًّا، وإن كانوا لا يعرفونَ أن مصدرَها هو ثقافتُه الموسيقيةُ المبكرةُ، التى تذوقْناها معه، نحن إخوتُه، انطلاقًا من غرفتِه فى بيتِنا الذى نشأنا فيه معًا.
- وبهذه المناسبةِ أذكرُ أن والدَنا، عندما قررَ الإقامةَ بالقاهرةِ، وتَركَ الريفَ و"شارونة " بصعيدِ مصرَ، اصطحبَ معه بعضَ قيمِ الريفِ، ومنها الحرصُ على كثرةِ الأبناءِ، فكنا تسعةً، يوسفُ ثالثُهم وأنا سادسُهم.
كذلك حرَصَ والدُنا على بناءِ بيتٍ متسعٍ وسطَ قطعةِ أرضٍ كبيرةِ المساحةِ، بها كرمُ عنبٍ ونخيلٌ وأشجارُ سنط، وحديقةٌ نزرعُها ونلعبُ فيها، لأن الرجلَ فى الريفِ تلازمُه الرغبةُ فى امتلاكِ مساحةٍ من الأرضِ الزراعيةٍ. وعندما ينتقل إلى المدينةِ، يكون البديلُ عن الأرضِ أن يمتلكَ بيتًا متسعًا، أتاحَ أن يستقلَّ كلُّ واحدٍ من الأبناءِ بغرفةٍ مخصصةٍ له.
وفى غرفةِ يوسف، شاهدْتُ مكتبتَه تتكونُ خطوةً بعدَ خطوةٍ، أو كتابًا بعدَ كتابٍ، فكانَ أولُ شىءٍ حاولتُ أن أتمثلَ به أن أنشئَ لنفسى مكتبةً، بل حاولَ كلُّ واحدٍ من إخوتى أن تكونَ له مكتبتُه الخاصةُ فى غرفتِه منذ سنواتِه المبكرةِ، إلى أن أصبحَتِ المكتبةُ تملأ معظمَ غرفِ بيوتِنا حاليًّا، وكانَ هذا من أهمِّ نتائجِ القدوةِ التى قدمها لنا الأخُ الأكبرُ، بعد الوالدِ الذى كان يمتلكُ أيضًا مكتبةً خاصةً، ونراه دائمًا مشغولًا بالقراءةِ أو الكتابةِ.
يوسفُ "وجمعيةُ الجرامافون":
- وعندما كان أخى يوسفُ طالبًا فى كليةِ الآدابِ، كانت هناك جمعيةٌ اسمُها "جمعيةُ الجرامافون" لتنميةِ التذوقِ الموسيقىِّ. كانت تجتمعُ فى بيوتِ الأعضاءِ بصفةٍ دوريةٍ. والحقيقةُ أننى لم أكن قد استمعتُ إلى الموسيقى الكلاسيكيةِ بقصدٍ، قبل أن أستمعَ من أخى عن تلك الجمعيةِ عندما كان عمرى 11 أو 12 عامًا.
وذاتَ يومٍ أعلنَ لنا أخى يوسفُ أنه جاءَ الدورُ على بيتِنا، وأن أعضاءَ الجمعيةِ سيجتمعون فى غرفتِه للاستماعِ إلى الموسيقى المسجلةِ على أسطواناتٍ. وأحضرَ أخى الأسطواناتِ وجهازَ تشغيلِها (الجرامافون أو البيك آب)، واستمعنا إليها مرارًا قبلَ وبعدَ مجىءِ زملاءِ يوسف (فى الجامعةِ)، ومن بينها السيمفونيةُ الخامسةُ لبيتهوفن، وشهر زاد لريمسكى كورساكوف. وقد حفظْنا أنا وأخى صبحى (الدكتورُ صبحى الشارونى الناقدُ التشكيلىُّ) مقطوعاتٍ كثيرةً مما سمعْنا، وأخذنا نرددُها فى البيتِ ومع الأصدقاءِ.
وبدأ يوسفُ يكشفُ لنا أسرارَ القصائدِ السيمفونية، وكيف أنها تدورُ حول لحنٍ أساسىٍّ يترددُ خلالها، لكنه يُفسحُ الطريقَ لغيرِه من النغماتِ، ويكونُ التناسقُ أو التناغمُ أو الهارمونى هو الذى يحققُ الوحدةَ والتماسكَ بين أجزاءِ العملِ الموسيقىِّ ويعطى له أثرَه الكلىَّ. وقد دفعَنى هذا إلى الحرصِ بعدئذٍ على الاستماعِ إلى البرنامجِ الموسيقىِّ بالإذاعةِ، وقراءةِ الدراساتِ التى تساعدُ على تنميةِ التذوقِ الموسيقىِّ.
هذه الثقافةُ الموسيقيةُ انعكسَت بوضوحٍ على البناءِ المتناسقِ الذى نجدُه فى عددٍ كبيرٍ من قصصِ يوسف الشارونى، رغمَ اختلافِ النغماتِ ما بين العالمِ النفسىِّ للبطلِ والعالمِ الخارجىِّ، أو ما وصفَه أستاذُنا يحيى حقى بأنها قصصٌ " ذاتُ بعدَيْنِ "، وهو ما جعلَ عددًا من النقادِ، كما ذكرتُ، يشبهون قصصَ يوسف الشارونى بالأعمالِ الموسيقيةِ، وهم لا يعرفون أن يوسف الشارونى قد تأثر كثيرًا فى هذا بثقافتِه الموسيقيةِ، التى بدأت فى الجامعةِ، ونقلَها بوعىٍ لمن حولَه، والتى طالما حدثتُ نفسى أنها هى التى أوحت إليه بهذا الشكلِ الجديدِ الحديثِ لقصصِه.
وحصلت "البوابة نيوز" على جزء من كلمة يعقوب الشاروني والتي جاء نصها كالتالي:
أبدأُ بصورةٍ انطبعَتْ فى ذاكرتى لا تمحوها الأيامُ، حدثت فى منتصفِ الأربعينياتِ من القرن الماضى:
اقتربَ موعدُ السفرِ، وتَهيَّأ الأخُ الأكبرُ للخروجِ بصحبةِ الصديقَيْنِ أحمد بهاءِ الدينِ وفتحى غانم ليكونا فى وداعِهِ، وهو مسافرٌ إلى السودانِ حيث سيعملُ مدرسًا فى الخرطومِ.
لكن المفأجاةَ كانَتْ فى انتظارِ الصديقَيْنِ، فقد ارتفعَتْ حرارةُ الأخِ الأكبرِ مع آلامٍ شديدةٍ فى المعدةِ.
وبدلًا من الذهابِ إلى محطةِ القطارِ المُتَّجهِ إلى أسوانَ ( وبعدها الباخرةِ المتجهةِ إلى السودانِ )، ذهبَ الأصدقاءُ الثلاثةُ إلى الطبيبِ.
لم يجدِ الطبيبُ سببًا مُحدَّدًا للمرضِ.
بعدَ ساعاتٍ قليلةٍ، عندما فاتَ موعدُ القطارِ، اختفَتْ كلُّ أعراضِ المرضِ.
قالَ الطبيبُ ضاحكًا: " إنكَ نفسيًّا لم تستطعْ الابتعادَ عن كتبِكِ وأصدقائِكَ بالقاهرةِ ! "
قالَ الصديقانِ: " بل قُلْ هى حساسيةُ الأديبِ الفنانِ، فهو " عريسٌ " جديدٌ، رأى أن يسبقَ عروسَهُ، لكنْ يبدو أنه لا يرغبُ فى السفرِ إلا وهى معَهُ !! "
- هذه حادثةٌ لا أنساها، عاشَها فى بداية حياتِه العملية أخى الأكبرُ يوسفُ الشارونى، الذى ملأ حياتى منذُ كنتُ فى المدرسةِ الابتدائيةِ، بكتبِ الأدبِ والنقدِ والفلسفةِ وعلمِ النفسِ، وبأحاديثِهِ مع أصدقائِهِ الذين تألَّقوا معه جميعًا فى سماءِ الأدبِ والفكرِ والفنِّ، ومن بينهم الأساتذةُ أحمدُ بهاءُ الدين وفتحى غانم وأنيس منصور وعبد الرحمن الشرقاوى ود. مصطفى سويف وبدر الديب.
***
إنها صورةٌ تكشفُ، على نحوٍ مكثفٍ، عن جوانبَ مختلفةٍ تُفصِحُ عن شخصيةِ أخى الكاتبِ الكبيرِ وأولِ أساتذتى، يوسف الشارونى.
ذلك أننى عندما كنتُ فى الرابعةِ الابتدائيةِ، كانَ أخى الأكبرُ يوسفُ فى السنةِ الأولى بقسمِ الفلسفةِ وعلمِ النفسِ فى كليةِ الآدابِ بجامعةِ فؤاد الأول ( القاهرة الآن ).
وهكذا امتلأ البيتُ حولى، منذ بلغتُ العاشرةَ من عمرى، بالمسرحياتِ والرواياتِ التى كانت قد صدرَتْ فى ذلك الوقتِ ( 1941 - 1945 ) لتوفيق الحكيم، الذى تعلمنا منه جميعًا فنَّ الحوارِ وأسرارَه، وبكتبِ علمِ النفسِ للدكتور يوسف مراد، وكتبِ الفلسفةِ للدكتورِ عثمان أمين حتى إننى كنتُ واحدًا من ثلاثةٍ نجحوا وحدَهم على مستوى مصرَ، فى مسابقةِ الفلسفةِ التى كانت تقيمُها وزارةُ التربيةِ والتعليمِ لطلابِ السنةِ النهائيةِ من التعليمِ الثانوىِّ.
وأذكر، عندما أحضرَ لى أخى يوسف رواياتِ نجيب محفوظ الأولى، وأنا فى بداية المرحلة الثانوية، (وكان عمرى 11 سنة)، أنه قالَ كأنما يتنبأ: " إنه أعظمُ كاتبِ روايةٍ باللغةِ العربيةِ، وقد يحصلُ يومًا على جائزةِ نوبل ".. ولعله قالَ هذه العبارةَ ليثيرَ حماسى لكاتبٍ لم أكن قد قرأت له من قبلُ، لكننى كنتُ أتذكرُها دائمًا كلما انتهيتُ من قراءةِ إحدى رواياتِ كاتبِنا الكبيرِ. وعندما حصلَ أستاذُنا نجيب محفوظ على الجائزةِ عامَ 1988، استعدتُ بقوةٍ كلماتِ أخى يوسف الشارونى، الذى أدركَ بحسِّه الفنىِّ المُرهَفِ أننا أمامَ روائىٍّ مصرىٍّ يستطيعُ أن يضارعَ أكبرَ أدباءِ العالمِ.
وكان أخى يوسف هو الذى اصطحبَنى إلى أولِ لقاءٍ لى مع كاتبِنا الكبيرِ نجيب محفوظ، عندما كان يعقدُ ندوتَه الأسبوعيةَ بكازينو أوبرا فى وسطِ القاهرةِ.
أصدقاءُ يوسف الشارونى:
كذلك امتلأ بيتُنا بعددٍ كبيرٍ من أصدقاءِ أخى يوسف، مما أتاحَ لى الاستماعَ، فى تلك السنِّ المبكرةِ، إلى كثيرٍ من المناقشاتِ والآراءِ، وقراءةَ عددٍ كبيرٍ من المخطوطاتِ لأعمالٍ أدبيةٍ وفى مجالِ الدراساتِ النفسيةِ، مما صقلَ موهبتى الأدبيةَ، وأثارَ اهتمامى المبكرَ بقضايا وحقائق نفسية وتربوية وآراءٍ متعددةٍ ما كان يمكنُ أن يتعرفَ عليها من كانوا فى مثلِ سنِّى فى ذلك الوقتِ، وأفادَنى هذا كثيرًا وأنا أكتبُ بعدئذٍ للأطفالِ والشبابِ الصغيرِ، كذلك وأنا أختار كتبى لمكتبتى الخاصة.
- ومن بينِ ما أذكرُه، أنه فى حوالَىْ عام 1951، عندما كنتُ طالبًا فى السنةِ النهائيةِ بكليةِ الحقوقِ بجامعةِ القاهرةِ، أعطانى أخى يوسف رسالةً وصلَتْ إليه من باريسَ.. كانَ الشاعرُ الكبيرُ الأستاذُ عبدُ الرحمنِ الشرقاوى فى بعثةٍ إلى باريسَ لمدةِ عامٍ، وأرسلَ من هناك إلى أخى يوسف مخطوطَ قصيدتِه الرائعةِ " من أبٍ مصرىٍّ إلى الرئيسِ ترومان " - وكعادةِ أخى أشركَنى معه فى الاستمتاعِ بالقصيدةِ وتذوقِها، لكى يرسلَ بعدئذٍ انطباعَه عنها إلى صديقِه، الذى أصبحَ من أعلامِ الشعرِ والروايةِ فى مصرَ والعالمِ العربىِّ.
وهكذا كان أخى الأكبر يساهمُ فى تنميةِ تذوقى للشعرِ وغيرِه من الفنونِ، ومن أهمها القصة، كما ساهمَ فى تنميةِ جوانبَ أخرى متعددةٍ من حياتى وحياةِ إخوتى، بل وحياة عدد كبير من شباب المبدعين.
يوسفُ والثقافةُ الموسيقيةُ:
وكانت الثقافةُ الموسيقيةُ من بينِ الخبراتِ المبكرةِ التى أتاحَها يوسف الشارونى لى ولإخوتى فى ذلك الزمنِ المبكرِ من حياتِنا.
لقد لاحظَ عددٌ كبيرٌ من النقادِ، أنه توجدُ فى كثيرٍ من قصصِ الشارونى " ألحانٌ متقابلةٌ "، أو نغمةٌ أساسيةٌ أو رئيسيةٌ، تعقبُها وتحيطُ بها تداعياتٌ تنتقلُ بالقصةِ من الخاصِّ إلى العامِّ، أو من العالمِ الخارجىِّ إلى العالمِ الداخلىِّ، أو العكسُ، ثم لا تلبثُ النغمةُ الرئيسيةُ أن تعودَ أكثرَ قوةً ووضوحًا، وهو ما اعتدْتُ أن أسمِّيَه " تنويعاتٍ ومقابلاتٍ على اللحنِ الأساسىِّ ".
والحقيقةُ أن ملاحظاتِ هؤلاء النقادِ حولَ المقارنةِ بين قصصِ يوسف الشارونى والأعمالِ الموسيقيةِ صادقةٌ جدًّا، وإن كانوا لا يعرفونَ أن مصدرَها هو ثقافتُه الموسيقيةُ المبكرةُ، التى تذوقْناها معه، نحن إخوتُه، انطلاقًا من غرفتِه فى بيتِنا الذى نشأنا فيه معًا.
- وبهذه المناسبةِ أذكرُ أن والدَنا، عندما قررَ الإقامةَ بالقاهرةِ، وتَركَ الريفَ و"شارونة " بصعيدِ مصرَ، اصطحبَ معه بعضَ قيمِ الريفِ، ومنها الحرصُ على كثرةِ الأبناءِ، فكنا تسعةً، يوسفُ ثالثُهم وأنا سادسُهم.
كذلك حرَصَ والدُنا على بناءِ بيتٍ متسعٍ وسطَ قطعةِ أرضٍ كبيرةِ المساحةِ، بها كرمُ عنبٍ ونخيلٌ وأشجارُ سنط، وحديقةٌ نزرعُها ونلعبُ فيها، لأن الرجلَ فى الريفِ تلازمُه الرغبةُ فى امتلاكِ مساحةٍ من الأرضِ الزراعيةٍ. وعندما ينتقل إلى المدينةِ، يكون البديلُ عن الأرضِ أن يمتلكَ بيتًا متسعًا، أتاحَ أن يستقلَّ كلُّ واحدٍ من الأبناءِ بغرفةٍ مخصصةٍ له.
وفى غرفةِ يوسف، شاهدْتُ مكتبتَه تتكونُ خطوةً بعدَ خطوةٍ، أو كتابًا بعدَ كتابٍ، فكانَ أولُ شىءٍ حاولتُ أن أتمثلَ به أن أنشئَ لنفسى مكتبةً، بل حاولَ كلُّ واحدٍ من إخوتى أن تكونَ له مكتبتُه الخاصةُ فى غرفتِه منذ سنواتِه المبكرةِ، إلى أن أصبحَتِ المكتبةُ تملأ معظمَ غرفِ بيوتِنا حاليًّا، وكانَ هذا من أهمِّ نتائجِ القدوةِ التى قدمها لنا الأخُ الأكبرُ، بعد الوالدِ الذى كان يمتلكُ أيضًا مكتبةً خاصةً، ونراه دائمًا مشغولًا بالقراءةِ أو الكتابةِ.
يوسفُ "وجمعيةُ الجرامافون":
- وعندما كان أخى يوسفُ طالبًا فى كليةِ الآدابِ، كانت هناك جمعيةٌ اسمُها "جمعيةُ الجرامافون" لتنميةِ التذوقِ الموسيقىِّ. كانت تجتمعُ فى بيوتِ الأعضاءِ بصفةٍ دوريةٍ. والحقيقةُ أننى لم أكن قد استمعتُ إلى الموسيقى الكلاسيكيةِ بقصدٍ، قبل أن أستمعَ من أخى عن تلك الجمعيةِ عندما كان عمرى 11 أو 12 عامًا.
وذاتَ يومٍ أعلنَ لنا أخى يوسفُ أنه جاءَ الدورُ على بيتِنا، وأن أعضاءَ الجمعيةِ سيجتمعون فى غرفتِه للاستماعِ إلى الموسيقى المسجلةِ على أسطواناتٍ. وأحضرَ أخى الأسطواناتِ وجهازَ تشغيلِها (الجرامافون أو البيك آب)، واستمعنا إليها مرارًا قبلَ وبعدَ مجىءِ زملاءِ يوسف (فى الجامعةِ)، ومن بينها السيمفونيةُ الخامسةُ لبيتهوفن، وشهر زاد لريمسكى كورساكوف. وقد حفظْنا أنا وأخى صبحى (الدكتورُ صبحى الشارونى الناقدُ التشكيلىُّ) مقطوعاتٍ كثيرةً مما سمعْنا، وأخذنا نرددُها فى البيتِ ومع الأصدقاءِ.
وبدأ يوسفُ يكشفُ لنا أسرارَ القصائدِ السيمفونية، وكيف أنها تدورُ حول لحنٍ أساسىٍّ يترددُ خلالها، لكنه يُفسحُ الطريقَ لغيرِه من النغماتِ، ويكونُ التناسقُ أو التناغمُ أو الهارمونى هو الذى يحققُ الوحدةَ والتماسكَ بين أجزاءِ العملِ الموسيقىِّ ويعطى له أثرَه الكلىَّ. وقد دفعَنى هذا إلى الحرصِ بعدئذٍ على الاستماعِ إلى البرنامجِ الموسيقىِّ بالإذاعةِ، وقراءةِ الدراساتِ التى تساعدُ على تنميةِ التذوقِ الموسيقىِّ.
هذه الثقافةُ الموسيقيةُ انعكسَت بوضوحٍ على البناءِ المتناسقِ الذى نجدُه فى عددٍ كبيرٍ من قصصِ يوسف الشارونى، رغمَ اختلافِ النغماتِ ما بين العالمِ النفسىِّ للبطلِ والعالمِ الخارجىِّ، أو ما وصفَه أستاذُنا يحيى حقى بأنها قصصٌ " ذاتُ بعدَيْنِ "، وهو ما جعلَ عددًا من النقادِ، كما ذكرتُ، يشبهون قصصَ يوسف الشارونى بالأعمالِ الموسيقيةِ، وهم لا يعرفون أن يوسف الشارونى قد تأثر كثيرًا فى هذا بثقافتِه الموسيقيةِ، التى بدأت فى الجامعةِ، ونقلَها بوعىٍ لمن حولَه، والتى طالما حدثتُ نفسى أنها هى التى أوحت إليه بهذا الشكلِ الجديدِ الحديثِ لقصصِه.