رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

النوايا الطيبة وحدها لا تكفي

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
ديستهين البعض بالدور الذى تلعبه الأعمال الدرامية والفنية فى حياتنا وفى تشكيل الوعى والوجدان منذ الصغر، رغم ما تتركه من بصمة وتأثير لا يمحى فى تكوين الشخصية، بزرع مبادئ لا تتزعزع، لذلك قد تساهم كثيرًا فى حل مشكلاتنا بدلًا من أن يعتبر بعض المبدعين أن الأعمال الهادفة تتناقض مع الفن وما يحققه من متعة، لذلك أحزن بشدة عندما أرى الكثير من الأعمال الدرامية التى يتم إنتاجها فى وقتنا الحالى، خاصة تلك التى يسيطر عليها القبح والبذاءة والسوقية، والتى تصنع من البلطجى بطلًا، وتجعل المشاهدين يتعاطفون معه، والأطفال يرونه قدوة، أو الأعمال التى تحاول هدم القيم التى ترسّخت داخلنا، أو تقلب الحقائق، فتصور الشرطة وكأنها الجانى والجناة والهاربين من العدالة فى صورة المجنى عليهم.. ولا أعلم ماذا ننتظر من الأجيال الجديدة التى يتشكل وعيها من خلال تلك الأعمال، فلا يوجد ما هو أشد تأثيرًا من الفن والدراما فى تشكيل وجدان الأمم.. ونحن أحوج ما نكون لفن واعٍ، يحارب ما نعانيه من انفلات أخلاقى ومن مشاكل سلوكية وتغييرات سلبية فى الشخصية المصرية.. ونحتاج لأعمال ترسخ قيم العمل والنظام والتخطيط والرضا وتقبُّل الآخر، بدلًا من الأعمال التى تحرض فئات المجتمع بعضها على بعض، وتزرع الحقد فى النفوس، فنحن نعيش فى نقطة فارقة، إما أن نستكمل الانحدار أو نبدأ فى النهوض مجددًا.. ولا شك أن الفن والدراما لهما أكبر دور فى ذلك، لما يمكن أن يرسخاه فى النفوس.. وأذكر فى طفولتى بعض الأعمال الدرامية التى تركت أثرًا كبيرًا فى نفسى وفى تكوينى، خاصة تلك الأعمال التى كانت ترينا أبطالًا من لحم ودم، يحملون قيمًا نبيلة ومبادئ لا تتغير مهما قابلوا من ضغوطات الحياة، وتعلمت دروسًا كثيرة من تلك الشخصيات، حتى أننى كنت أشعر أننى حملت خبرة من حياتهم التى تعايشت معها، رغم أننى لم أعشها.. وكان من بين تلك الأعمال الفنية المحفورة داخلى، رائعة المبدعين أسامة أنور عكاشة ومحمد فاضل «رحلة السيد أبوالعلا البشرى»، والتى كتبت خصيصًا للفنان العملاق محمود مرسى، وأداها ببراعته المعهودة، فأحببت بشدة شخصية أبوالعلا البشرى، الذى يستمد صفاته من اسمه، فهو رجل المبادئ الطيب ذو الضمير النقى والفطرة السليمة، والذى وهب نفسه لمساعدة غيره، وفى نفس الوقت قرر أن يحمل رسالة أخلاقية، وساعده القدر بأن منحه فرصة عمره بارتفاع سعر الأرض التى يمتلكها، فأصبح فجأة من أصحاب الملايين، فكان قراره بأن يجعل من أمواله سببًا فى حل مشاكل أقاربه، ولكنه رغم ذلك وقع فى مشاكل لا طاقة له بها، وأوقعهم أيضًا!.. ثم توهم أنه قد يمكنه التأثير بأخلاقه الطيبة فى النفوس الخبيثة، فحمل لهم رسالة الأخلاق والمبادئ، فاستطاعوا استغلاله، وأوهموه بأنهم سيحققون له حلم المدينة الفاضلة، بإنشاء مشروع سكنى ضخم يحمل اسمه بتسهيلات كبيرة، ومدرسة تعلم الأجيال الجديدة الحق والخير والجمال والمبادئ العليا، فنهبوا أمواله وأموال الكادحين، ولم يحصد من حُسن النية سوى أنه وقف خلف القضبان! ولكنه رغم ذلك كان ألمه الأكبر بسبب ما قاساه من عذاب الضمير، لأنه بدلًا من أن يحمل الخير والأمل للبشر كان سببًا فى معاناة الآلاف، الذين صدقوا حلمه النبيل، فأصبحوا من ضحاياه وضحايا حسن النوايا.. وبعد أن وقف مع نفسه أدرك أن النوايا الطيبة وحدها لا تكفى مهما بلغ نبلها! وأن المهم أن يملك الشخص الرؤية التى تمكنه من الوصول إلى أهدافه وتحقيقها، حتى لا يصبح مثل شخصية «دون كيشوت»، الذى ظل يحارب طواحين الهواء وفى اعتقاده أنه يحارب الأعداء.. وإذا أخذنا هذا العمل الفنى مثالًا لما قد تحققه الدراما، فسنجد أننا نعانى فى واقعنا من غياب الرؤية والتخطيط لدى كثير من مسؤولينا، رغم أننا قد نجد شخصيات مثل أبوالعلا البشرى يملكون النوايا الصادقة والطيبة، ويسعون للمثالية، ولكنهم لغياب الرؤية والأهداف الواضحة قد يكون تأثيرهم سلبيًا أكثر من الشخصيات المشوهة والفاسدة التى تملأ واقعنا الآن.. وكما يقال فإنك إذا لم تخطط لمستقبلك ستترك الحياة تخطط لك مصيرك، ويصبح المستقبل فى مهب الريح تحركه كيفما تشاء! فكيف نخطط إذا كنا لا نملك رؤية وأهداف واضحة تمكننا من بناء إستراتيجية حقيقية، بدلًا من أن نظل نعتمد فى سياساتنا العامة على سياسة رد الفعل، فلماذا لا نتعلم من التاريخ ومن دروس الحاضر، والواقع الذى أصبح يفرض علينا أن نخطط للمستقبل بدلًا من أن نتركه لغيرنا، وحتى لا نعود مجددًا لنتحدث عن المؤامرات.. نعم نحن كدول عربية تحاوطنا المؤامرات من كل جانب، ولكننا بكل أسف نتآمر على أنفسنا أولا! لأننا لم نعِ الدرس بعد، ولم نحسن استخدام ما نمتلكه من أدوات، وما زلنا لا نضع الشخص المناسب فى المكان المناسب، ونترك من لا يملكون رؤية أو علمًا أو قدرة على التخطيط يتحكمون فى مصائرنا.. وما زلنا نتجاهل أهمية الثقافة والإعلام فى تشكيل الوعى، ونعتمد على أهل الثقة دون أهل الخبرة، رغم أن الكثيرين ممن لا تحاوطهم شبهات الفساد، قد يكونون مثل أبوالعلا البشرى لا يملكون سوى النوايا الطيبة فقط!