قراءة فى المشهد الوطنى
استعرضنا فى المقالين السابقين بعضًا من ملامح النموذج الأمريكى لـ«الدولة المدنية الحديثة» فى صورته الجديدة بعد انتخاب الرئيس دونالد ترامب، حيث عبر الأخير عن نمو التيار الشعبوى فى المجتمع الدولى مؤخرًا، وما أنتجه ذلك من تصادم على الأرض الأمريكية مع مضمون «الدولة المدنية الحديثة» من انفتاح على الآخر، واتساع أفق رؤية النظام الحاكم لتشمل توافقاته مع منظومة القيم العالمية المعاصرة.
والواقع أننا فى حاجة إلى زيارات متتابعة للنموذج الأمريكى، بالغ الأثر، إذ نرصد فيه توجهات، لا شك، فاعلة فى حركة وتوجهات الكثير من الدول والقوى الإقليمية، ومنها مصر بالقطع، إذ ما زالت ملامح نظام عالمى جديد تتشكل، ولم تفقد القوة الأمريكية تأثيرها، المباشر وغير المباشر، فى توازنات القوى الإقليمية.
وعليه، لنا وقفة اليوم مع المشهد الوطنى، وما يحققه من خطوات على طريق بناء «الدولة المدنية الحديثة»، إلى جانب ما يمكن أن يخصم من منجزه فى هذا الشأن. ومن ثم أُشير إلى الآتى:
• مواجهة الإرهاب: بداية لا أتفق مع ما هو رائج، من أننا نحارب الإرهاب وحدنا، وبالإنابة عن العالم كله! فذلك أمر يختصم الحقيقة فى جوهرها، ومن هنا أُبدى الملاحظات التالية:
ــ لاحظ مسئوليتنا التاريخية، فمصر كانت مهدًا لنشأة جماعة الإخوان المسلمين، وهى النبع الأصيل لكل التيارات المعبرة عن الإسلام السياسى فى صورته العنيفة.
ــ الإرهاب يضرب فى اتجاهات شتى، وضحاياه لا تحدها جنسية أو دين أو توجه سياسى أو اقتصادى.
ــ الكثير من الدول منغمسة فى مجابهات مسلحة مع الإرهاب، وجيوش غربية عديدة تعمل فى منطقة الشرق الأوسط الأكثر احتراقًا بالإرهاب.
ــ مصر بالفعل تلقى تأييدًا سياسيًا واسعًا، جراء مجابهتها للإرهاب، لكن علينا أن ندرك كم أن السياسة تحترم المصالح كثيرًا، وقواعد الصراع الدولى مبنية على المساومة، ومعادلات الأمن القومى لكل دولة تأخذ فى اعتبارها حدودًا معينة من التوافق الإقليمى والدولى، بعدها تُعد مقومات الأمن القومى لدولة ما مخصومة من مقومات الأمن القومى لغيرها من الدول! يعبر ذلك عن تقلب المصالح مع ديمومة ثوابت الأمن القومى.
ــ الإرهاب دائمًا ما يتجه إلى ضرب قواعد «الدولة المدنية الحديثة» ومرتكزاتها القيمية. من ذلك محاولة الإرهاب تصوير وتضخيم استهدافه الإخوة المسيحيين فى شمال سيناء مؤخرًا، حتى تم تهجيرهم إلى الإسماعيلية، واستقبلتهم الكنائس بشكل مؤقت. بينما الواقع أن الإرهاب يسعى إلى ضرب مفهوم «المواطنة» كركيزة أساسية فى بناء «الدولة المدنية الحديثة»، المزمع إنشاؤها فى مصر. والواقع أن بغى الإرهاب عام، ووحشيته لا تفرق أبدًا بين مسلم ومسيحى.
• زيارة ميركل: تستعد القاهرة لاستقبال المستشارة الألمانية «ميركل» بعد غد الخميس، فى زيارة تؤكد ما ذكرناه من الدعم السياسى الذى تلقاه مصر فى مواجهتها للإرهاب، بل وفى محاولتها بناء «دولة مدنية حديثة»، بها تنخرط فى منظومة المجتمع الدولى وفق قيمه الإنسانية والسياسية العالمية. ومن اللافت للنظر أن «ميركل» تنوى زيارة البابا تواضروس وشيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب. ولا شك أن الالتقاء بالرموز الدينية ليس من الأهداف المعتادة للقيادات الغربية عمومًا. غير أن الأمر يشير بلا شك إلى رغبة ألمانية واضحة فى التعرف على قوة ومتانة مفهوم «المواطنة» فى مصر، من خلال الاستماع إلى رؤى وأفكار وتوجهات المكون الدينى للأمة المصرية، الأزهر والكنيسة، فليس أدق من ذلك معيارًا يمكن أن يثق به المجتمع الدولى فى حقيقة توجهاتنا صوب «الدولة المدنية الحديثة».
• التعديل الوزارى: بالفعل عبر الإعلام عن محتواه من حرية الرأى والتعبير، وكذلك عن مدى ما يملكه من حجم متواضع من المهنية! فقد نال التعديل الوزارى نقدًا كبيرًا، وصل إلى حد رآه أحد الوزراء الجدد أنه تشهير يستدعى لجوءه إلى القضاء دفاعًا عن سمعته وشرفه. فى المقابل لم يشعر الشارع المصرى بأن جديدًا مُبشرًا يمكن توقعه؛ إذ أى إفادة يلتمسها المواطن العادى جراء ضم الاستثمار على وزارة التعاون الدولى. وأى مصلحة مباشرة يمكن أن يجنيها بتغيير وزير التموين السابق الذى أمضى شهورًا قليلة فى المنصب. وأى تطور يمكن أن ينتشل التعليم من عثرته الموروثة باستقدام وزير تعليم جديد، وآخر للتعليم العالى. بل وأى مصلحة يمكن أن يجنيها المواطن جراء بقاء وزير الصحة الأشهر بين زملائه الوزراء على ألسنة المواطنين حين يجأرون بالشكوى كل ليلة فى الفضائيات. ونقص الدواء شاهد على مدى كفاءته!
كل ذلك وغيره كثير، ما كان له أن يريح المواطن دون أن يصدر عن الحكومة خطاب موضوعى يبرر للرأى العام أسباب استبعاد أو اختيار وزير ما، وما السياسات الجديدة التى ستحتل الأولوية القصوى فى أجندة كل وزير، وما أدواته فى ذلك. بل إننى لا أبالغ أن الشعب يريد بالفعل أن يدرك ما بلغ القيادة السياسية من خطايا للوزراء والمحافظين السابقين، وكيف سيحاسبون عليها؛ إذ لا يكفى أبدًا الاستبعاد من الموقع، خاصة أن بعضًا من وسائل الإعلام طيرت الأنباء عن ملفات كبدت الدولة أموالًا باهظة جراء ممارسات بعض المسئولين السابقين، وزراء ومحافظين؛ ومن ثم ففتح هذه الملفات، سياسيًا وقضائيًا، أمام الرأى العام، أراه واجبًا وطنيًا لا ينبغى التراخى عنه على الإطلاق. ومعه نؤكد جدية الدولة فى مجابهة الفساد والمفسدين. خاصة أن التجربة الوطنية فى صورها الأخيرة تُبارك عودة بعض الشخصيات السابق استبعادها فى أوقات سابقة، لسابق فشلها أيضًا، ربما اعتمادًا على ضعف ذاكرة الشعوب، أو فلنقل استنادًا إلى غياب الحقائق التى على أثرها تم استبعادهم سابقًا، وهو أمر ينبغى ألا يتكرر لو أننا بجدية نمضى قدمًا وبصدق على طريق بناء «دولة مدنية حديثة».
• مجلس النواب: ما زال مجلس النواب يثير الكثير من التساؤلات فى الشارع المصرى، لعل أهمها ما يلى:
ــ دون الدخول فى جدل قانونى، ليس هو الأساس بالقطع؛ ومن ثم لا يصح أن ترتكن إليه المؤسسة التشريعية، لماذا الإصرار على عدم إذاعة جلسات المجلس على الهواء مباشرة ليتابعها الرأى العام، ويمارس حقه فى الرقابة الشعبية على مؤسسته التشريعية؟ فكون أنها منتخبة من الشارع، فليس فى ذلك ما يمنحها تفويضًا شاملًا مدته عمر المجلس ولا عودة فيه، خاصة أننا نقترب من انتخابات المحليات التى يمكن أن تتأثر نتائجها بأداء القوى السياسية داخل البرلمان.
ــ مسألة ضم الدكتور عمر الشوبكى للمجلس طالت واستطالت حتى باتت تشكل علامات استفهام كبيرة، ليست بالقطع فى صالح البرلمان وما يناله من مصداقية فى الشارع.
ــ البساطة التى مرت بها حكومة المهندس شريف إسماعيل، سواء فى بدايتها أو عند إجراء تعديل بها، لا تتسق والأصوات العالية المتوعدة التى يطالعنا بها الكثير من النواب عبر الفضائيات كل ليلة. وعليه ربما كان الأمر لا يعدو «مُسليات برلمانية» تستهدف دغدغة مشاعر المواطنين، والترويح عنهم قبل النوم، بعد أن أرهقتهم القرارات الحكومية المؤلمة والمتكررة. والحال كذلك يشير إلى أهمية إذاعة جلسات المجلس على الهواء، لنرى كم يقاتل النائب تحت القبة، وليس فى الاستديوهات التليفزيونية.
كانت تلك ملاحظات سمحت بها المساحة المتاحة، والأسبوع المقبل بإذن الله نواصل رصد حركة المشهد الوطنى على طريق بناء «دولة مدنية حديثة»، إن لم يكن فى المشهد الدولى ما يحتل أولوية تجذبنا إلى خارج الحدود.