لست مع التسيب، ومن أنصار تطبيق القانون، وأحترم الدولة، لكنى أتحفظ كثيرًا على أداء المسئولين فى مصر حول مسألة تعاملهم مع قضية الكافيهات والمقاهى بعد مقتل شاب فى كافيه بحى مصر الجديدة!
فأيّا كانت ملابسات الحادث الموجود فى عهدة النيابة حاليًا، فهذا لا يعنى أن تشرع الحكومة فى نصب مجزرة لكل كافيهات المحروسة. فحالة السعار التى انتابت مسئولى الأحياء والمحافظين فى الرد على واقعة مقتل الشاب، لا يمكن السكوت عليها، لذا أعلن تحفظى على هذا التصرف الذى يجافى أى حكمة أو احترام للقانون، وسوف أسرد لكم فى السطور التالية جوهر تحفظى.
إن هجوم الأحياء والمرافق الغاشم على الكافيهات والمقاهى، وإغلاقها، هو أمر يدين هؤلاء المسئولين الواجب محاسبتهم فالمقاهى التى تحركوا فجأة لإزالتها تعمل منذ سنوات طويلة، ولم يُقدم أحد على غلقها، ولم يسأل أحد عن أوراقها، فهل اكتشفوا فجأة أن هذه الكافيهات خارجة على القانون؟ أم أن المسئولين فى مصر يغطون فى غيبوبة عميقة، وعندما أفاقهم حادث مقتل الشاب أرادوا أن يهربوا من الحساب بحملة تعدٍ ظالمة على مَن لم يخطئ؟
إن الإجراءات التى اتخذها المحافظون ورؤساء الأحياء ضد الكافيهات، خاصة فى القاهرة والجيزة، هو اعتراف ضمنى من هؤلاء بالتقصير، والتواطؤ مع الفساد إذا ما كانت كل الكافيهات التى هدمت فعلا مخالفة. وإذا كانت غير ذلك فلابد من محاسبة هؤلاء المسئولين أيضا لأنهم يحاولون تشويه صورة الدولة لتبدو أنها تستهين بالآخرين ولا تتورع فى قطع أرزاق الأبرياء.
هؤلاء المسئولون لم يحكّموا العقل والمنطق، بل أطلقوا بلدوزاراتهم تزيل وتهدم كل المقاهى والكافيهات، بشكل أسوأ مائة مرة مما فعله التتار عندما دخلوا مصر!
فأنا لست من هواة الجلوس علي المقاهى، وليس لى أى قريب أو صديق يمتلك «كافيه» حتى أدافع عنه، فلست صاحب مصلحة مباشرة أو غير مباشرة فى هذه القضية، سوى سعيى لوقف مسلسل الإساءة إلى سمعة الدولة، التى قد تبدو لرجل الشارع أنها «قطّاعة أرزاق» فالمنظر الذى شاهدناه يوحى بأن دولة القانون لا تعرف القانون، بل تستغل سلطاتها أسوأ استغلال ضد أصحاب المقاهى، التى يصرف أصحابها آلاف الجنيهات من أجل إنشائها، ويساهمون فى تشغيل الشباب العاطل بالعمل فيها.
ففى كل دول العالم هناك أماكن محددة للمقاهى والكافيتريات، ولها مظاهر شديدة الجمال، وروادها من كل الطبقات، وفى مصر يوجد بكل محافظة شوارع مشهورة بالمقاهى، يخرج إليها المواطنون من كل الأعمار، لا فرق بين رجل وامرأة، لأن البعض يذهب إلى المقهى مع أسرته لتغيير جوّ، والتنفيس عن أهل بيته، والبعض الآخر يذهب مع أصدقائه، أو مَن هم فى مثل سنه، لقضاء أوقات جميلة والاستمتاع باحتساء المشروبات، وتدخين الشيشة.
فمصر معروفة من بين الدول العربية بأن شارعها لا ينام، ومقاهيها عامرة بالرواد، أى أن المقاهى هى سمة مميزة للشارع المصرى، مفهوم أنه مع الوقت انتشرت ظاهرة الكافيهات فى شوارعنا بشكل كبير، لدرجة أنها أصبحت تقام أسفل العمارات بطريقة عشوائية، والغريب أن الأحياء كانت توافق على إنشائها بهذه الطريقة!
فمن يصدق أن الأحياء تترك مخالفات البناء الخاصة بتشييد أبراج عالية، أكثر من اتساع الشارع، بشكل يحجب الشمس والهواء عنه، ليبدو الشارع كأنه غابة من الأسمنت، وتتجه لسن أسنانها فى مسألة المقاهى أسفل العمارات! رغم أن بعضها حاصل على ترخيص رسمى، من الحى ووزارة السياحة وغيرها من الجهات! وتكلّف إنشاء واحدة منها أكثر من نصف مليون جنيه! ليقوم الحى بهدمها وإغلاقها دون سابق إنذار، الأمر الذى جعل كثيرًا ممن شاهدوا عمليات الإزالة فى حالة استياء من هذه الأفعال.
أعرف أن بعضكم سوف يقول: «إن للمقاهى أضرارا على البيئة، مثل التلوث السمعى والبصرى، والهواء، وأنها فى أحيان أخرى تعتدى على حرم الشارع» وهؤلاء أقول لهم إن هذه المخالفات لا تبرر أبدًا المجزرة التى قامت الدولة بنصبها لها، كان من الأولى أن يفتح المسئولون باب تقنينها وترخيصها، طبقًا للاشتراطات والقوانين، وهو مورد ممكن أن تستغله الحكومة فى جلب الأموال، من خلال فرض ضرائب، وغرامات باهظة على المقاهى والكافيهات المخالفة، مع توفير شرطة خاصة للمتابعة والتفتيش عليها، ووضع حلول واقعية بمراجعة التشريعات الخاصة بهذا الجانب، ودراسة مدى مطابقته للواقع فى ظل التغييرات التى حدثت للمجتمع بعد تكدس السكان فى أرجاء عاصمته. تلك الآلية أعتقد أنها أجدى بكثير من سيف البلدوزر.
يجب أن يكون هناك تنسيق بين أجهزة الدولة، ممثلة فى وزارات التنمية المحلية والإسكان والكهرباء والبيئة والسياحة والداخلية لتقوم كل وزارة بواجبها بطريقة إيجابية، دون تعقيدات، مع التوسع فى إقامة أندية بديلة للمقاهى ونواد اجتماعية مقابل الكافيهات، وتطوير مراكز الشباب على غرار مركز شباب الجزيرة.
فالمعروف أن مصر بها عدد كبير من الشباب العاطل، الذى لا يجد مكانًا يسعه سوى المقهى، هؤلاء قنبلة موقوتة، يجب الحفاظ عليهم، حتى لا تلتقطهم أيدى الإرهاب والتطرف، ليكونوا فريسة سائغة يسهل استغلالها. وفى الوقت نفسه يجب الإسراع فى إنجاز مشروعات التنمية، فكلما زادت انخفضت البطالة، وهذا معناه انخفاض حاد فى عدد رواد المقاهى المكتظة بالشباب الباحث عن حياة أفضل.