اترك أفكارك المسبقة جانبًا، ورتب المشاهد "مجردة" مرة أخرى، ولنبدأ بسؤال محوري.. لماذا تصاعدت التحركات في العريش ضد المسيحيين بالتزامن مع الاحتفاء بشائعة توطين الفلسطينيين في سيناء التي جاءت بدورها للتغطية على نجاح الجيش المصري في فرض سيطرته على جبل الحلال؟
سبب السؤال هو التنسيق أو الترتيب الذى اتضحت ملامحه بين أطراف قد يبدو ظاهريًّا أنها على خلاف ولكن في الأصل يحركهم هدف واحد، وهو تعطيل مسيرة عودة الدولة المصرية لقوتها، وإظهارها أمام العالم بمظهر العاجز عن حماية مكونات المجتمع المصري.
ولا تستغرب أن داعش تخطط وتنفذ ويقوم الإخوان بالترويج الإعلامي، ويبتلع نشطاء الأقباط في الداخل والخارج الطعم، وتمرر للإعلام ألفاظ مثل "نزوح" أو "تهجير" في استنساخ مخل للمشهد العراقي والسوري، وكأن مصر قد تحولت إلى دولة منكوبة، أو بيت المقدس نجح في فرض سيطرته على سيناء.
هذ الربط ليس هدفه الهروب من مسئولية ما حدث لعدد من المسيحيين المصريين في العريش، فالذبح لا يفرق بين مسلم ومسيحي، فقد ذبحوا شيخًا صوفيًّا مسنًا، وقتلوا بدوًا من أهل سيناء، ومصر تقدم يوميًّا الشهداء لحماية شعبها، وفى المقابل الإرهاب لا ينتهى، ويحصل على أسلحة حديثة، ودعم مالي غير محدود، وتظهر أيادي ممتدة تساعده بشكل غير مباشر، ولا يخفى على أحد التواطؤ الذى اتضحت معالمه بين إسرائيل وداعش وتَمْثِيَّلية القصف المتبادل، تمهيدًا لممارسة إسرائيل مزيدًا من الضغوط على مصر؛ لوقف تحركها المضاد لإسرائيل في الملف الفلسطيني، ووقف تشددها تجاه ضرورة الالتزام بحل الدولتين، خاصة أن مصر تقود جبهة عربية لدعم الحق الفلسطيني في إنشاء دولة مستقلة على حدود 4 يونيو 1967م.
وحتى تتضح الصورة أكثر يجب أن نتذكر الدراسة التي أعدها البروفيسور إفرام إينبار، أهم مستشاري رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، بمعهد الدراسات الاستراتيجية الخاص بجامعة بار إيلان بتل أبيب، للوضع الشرق الأوسطي، وطالب فيها بوقف حرب داعش، حتى تتمكن إسرائيل من استخدامهم في صراعها ضد إيران، وفرض رؤيتها على المنطقة؛ حيث بنى نظريته على قاعدة "من هو العدو ومن لا يمثل خطرًا؟"، وبحسب تلك النظرية فداعش عدو لكن لا يمثل خطرًا، بل يمكن مساعدته طالما يحارب بالوكالة دول كبرى مثل سوريا والعراق ومصر، وتقف بالمرصاد لإيران، ومن ثم تحقق مصالح إسرائيل الكبرى، ومن خلالها تم تدمير كل القوى العسكرية التي تكافئ إسرائيل في المنطقة.
نجحت مهمة داعش فى سوريا والعراق بينما مصر صامدة، ولم تخجل إسرائيل من تقديم مساعدات علنية لعناصر داعش في سوريا، فقدمت لهم العلاج في مستشفياتها أمام العالم كله، وأسهمت في تدمير القوات السورية التي تواجههم في أكثر من موضع على الأراضي السورية دون رد من القوات الروسية، حتى لا يشتعل خلاف روسي إسرائيلي، خاصة مع اعتماد روسيا على إسرائيل فى ترتيب أوراق المنطقة وفق مصالحها.
إسرائيل لا تريد لمصر النجاح في القضاء على داعش سيناء، وتريد التواجد أو استخدام الموقف كورقة ضغط أو مساومة مع مصر.
توقف كثيرًا عزيزي القارئ أمام هذا الاستنتاج، وأعد مرة أخرى ترتيب المشهد.
نأتي للمشهد المسيحي وفيه تتحرك تيارات أهمها نشطاء المهجر الذين تعطلت مشروعاتهم القديمة؛ بسبب التحول الذى طرأ على الإدارة المصرية بعد تولى الرئيس عبدالفتاح السيسي للرئاسة، وتحركه المستمر لإزالة العدوان التاريخي على حقوقهم، والذي وصل لقمته بالانتقام لمقتل العمال المصريين المسيحيين في ليبيا على يد عناصر داعش باستخدام سلاح الجو المصري، ثم إصدار قانون لبناء الكنائس ودعمه لتمثيلهم بشكل عادل في مجلس النواب المصري، وزياراته المتكررة للكاتدرائية المرقسية بالعباسية للتهنئة بعيد الميلاد.
تحركات الرئيس السيسي وتعاون البابا تواضروس الثانى لتفعيل المواطنة وتحسين علاقة الدولة بالمسيحيين لم تجد صداها لدى نشطاء المهجر، الذين يرغبون في استعادة ذاكرة الخلافات، ويشككون في القيادة الحكيمة والوطنية لقداسة البابا، وهو ما يأتي في صالح القوى المتربصة بمصر.
وللأسف اتفقت أجندة نشطاء المهجر مع أجندة عناصر الإخوان وداعش الذين يسعون للوقيعة بين الدولة والمسيحيين، بل يمكن أن تلمس أن هناك شبه استماتة فى صنع صورة تشابه ما حدث بـ"ماسبيرو" خلال فترة حكم المجلس العسكري، والتي اشتعلت بسبب بناء كنيسة فى أسوان، هل يعلم أحد ما هو مصيرها الآن؟ ولماذا اختفت بعد الحادث؟ ولماذا مرر الإخوان لإعلامهم وقتها النزول لحماية الجيش، ثم انقلبوا عليه بعدها للتقارب مع المسيحيين؟ وهو ما تكرر في قنواتهم وإعلامهم وعبر نشطائهم على مواقع التواصل الاجتماعي، مستغلين نسيان الناس لتصريحات القيادي الإخوانى محمد البلتاجي الذى قال بالصوت والصورة "إن هذا الذى يحدث في سيناء ينتهى في اللحظة الذى يعود فيها مرسى رئيسًا للجمهورية"، ونسيانهم أيضًا لتهديدات من تواجدوا في رابعة للكنائس وممتلكات المسيحيين حتى يسحبوا تأييدهم لثورة 30 يونيو.
ودعني أصارحك هنا أننى شعرت بالغصة حينما استخدم بعض المثقفين المسيحيين للفظ "ذمى" للتعبير عن غضبهم بعد هروب العائلات من العريش، هل يُعقل أن نستخدم تلك الكلمة في القرن الواحد والعشرين، وبعد كل هذه السنوات من التعايش والنضال المشترك من أجل الدولة المدنية وإرساء قواعد المواطنة، وإلى متى يصمت الأزهر على تلاعب الجماعات الإرهابية بالنصوص الدينية؟ ولماذا لا يساعد المجتمع في التخلص من التصنيف على أساس ديني ويعمل على إزالة أسباب الفرقة بين أبناء الوطن الواحد؟ الوطن يحتاج من الأزهر الكثير، وهو لايزال بعيدًا عما هو مأمول، وتشغله أمور أبعد ما تكون عن متطلبات الساعة.
ما حدث في العريش هو استغلال نقطة ضعف للدولة المصرية في وقت حرب مشتعلة مع العناصر الإرهابية وتحويلها لأزمة دولية تشوه صورة مصر أمام العالم، وتحديدًا أمام الإدارة الأمريكية الجديدة قبل زيارة الرئيس السيسى الأولى لترامب، وذبح لاستقرار الوطن بسكين الإرهاب، وتكسير لتماسك الشعب المصري وارتباطه القوى بأرضه ووطنه ودولته، وهو مخطط قديم يتجدد حينما تتلاقى إرادات ومشروعات لعناصر لا تريد لهذا الوطن الأمان، بل تسعى بكل قوتها لتخريبه والقضاء عليه.