الجمعة 22 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

الجوع فى زمن الكوليرا (1)

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
فى عام ١٩٨٥ نشر الكاتب الكولومبى الشهير جابرييل جارسيا ماركيز رواية «الحب فى زمن الكوليرا» باللغة الإسبانية «El amor en los tiempos del clera»، وقد تمت معالجتها سينمائيًا فى فيلم يحمل عنوان الرواية نفسه، وربما يكون أهم ما فى هذه الرواية هى تلك الحيرة التى نجد أنفسنا غارقين فيها منذ بداية الرواية حتى آخرها، وإن الدهشة التى أصابتنا فى «مائة عام من العزلة» لكفاءتها العالية، تصيبنا عند قراءة هذه الرواية، غير أنها قادمة من طرق أخرى، هنا كل شيء ممكن، كل شىء يتحول إلى الممكن، ويظهر بعد معرفة الأحداث بأنه لم يكن بالإمكان حدوثها بشكلٍ آخر، أما الفكرة الثابتة فى هذه الرواية هى أنها «رواية حب»، ويكتب المؤلف عن روايته فيقول: «إن هذا الحب فى كل زمان وفى كل مكان، ولكنه يشتد كثافة كلما اقترب من الموت.
غير أنه فى مصر لم يكتشف المؤرخون والأدباء الحب من أى نوع فى زمن الكوليرا، بل إن المؤرخين والصحف السيارة فيما بعد أرخت ووثقت لحظات انتشار مرض الكوليرا أو الطاعون مصحوبًا بالجوع والقتل والسلب والنهب، لم يكن فى الأمر حب، بل كان فى الأمر حزن وجشع للتجار وشُح للأقوات وتحول للبشر إلى وحوشٍ طليقة فى الطرقات.
ففى عام ١٣٤٨ اجتاح الطاعون العالم، وسماه المصريون الوباء الأصفر. كان هذا فى دولة المماليك البحرية بعد عام من سلطنة الملك الناصر حسن الأولى، وقد سماه المصريون أيضا «الموت الأصفر»، وقد بدأ فى أواسط آسيا ثم انتقل إلى شبه جزيرة القرم ومنها إلى جنوة عن طريق البواخر ثم انتشر فى أنحاء أوروبا، وقيل إنه لما وصل إنجلترا حصد أرواح نصف مواطنيها.
يقول ابن إياس: «إنه كان يخرج من القاهرة كل يوم ما يزيد على ٢٠ ألف جنازة، وبلغ عدد من ماتوا بين شهريْ شعبان ورمضان نحو ٩٠٠ ألف، ولم يُزْرَع من الأراضى الزراعية فى هذه السنة إلا القليل بسبب موت الفلاحين، فوقع الغلاء، وكادت مصر تخرب فى تلك السنة»، أما أبو المحاسن فيقول، نقلاً عمن عاشوا بعد «شُوطة» هذا الوباء: «فما إن أهلّ ذو القعدة إلا والقاهرة خالية مقفرة لا يوجد بشوارعها مارٌ لاشتغال الناس بالموتى وامتلأت الأماكن بالصياح؛ فلا نجد بيتًا إلا وفيه صيْحة، ولا تمرُ بشارع إلا وترى فيه عدة أموات، وفى يوم الجمعة بعد الصلاة على الأموات فى جامع الحاكم صُفَت التوابيت من باب مقصورة الخطابة إلى باب الجامع، ووقف الإمام على العقبة والناس خارج الجامع، وكان يُدْفَنُ فى الحُفرة ثلاثين أو أربعين».
وفى عام ١٤١٦ داهم الطاعون مصر ثلاث سنوات انتهت فى عام ١٤١٩م. ولم تكد تمضى ١٥ عامًا وتحديدًا فى العام ١٤٣٠م حتى تفشى الطاعون من جديد فى عهد سلطنة الملك الأشرف برسباى، ومات بسببه عددٌ هائلٌ من الناس، حتى إن ابن إياس يقول: «مات فى يوم واحد ٢٤ ألفا»، وكان ممن ماتوا الخليفة العباسى المستعين بالله، وفى العام ١٤٥٩ داهم الطاعون مصر قادمًا من الشام، وكان شديدًا إلى الحد الذى هلك به ثلث المماليك والأطفال والجوارى والعبيد والغرباء، وفى سلطنة الملك الأشرف قايتباى عام ١٤٧٦ تفشى الطاعون فى مصر، وهو الوباء الثانى الذى وقع فى سلطنة قايتباى، ومات به عددٌ كبيرٌ من الأمراء والأعيان والكبراء والعامة والفقراء، وللمرة الثالثة فى دولة الأشرف قايتباى داهم الطاعون مصر فى عام ١٤٩٠.
ونجد لدى ابن إياس تفسيرًا سياسيًا ودينيًا لتكرار تفشى الطاعون فيقول: «كَثُرَ بمصر الزنى واللواط وشرب الخمر وأكل الربا وجَوْر المماليك فى حق الناس»، يقول ابن إياس هذا معتمد على الحديث النبوى الذى يقول «مَا مِنْ قَوْمٍ يَظْهَرُ فِيهِم الزِنَى إلا أُخُذِوا بالفَنَاء»، وفى سلطنة الملك الأشرف قنصوه الغورى عام ١٥٠٥ تفشى الطاعون وبلغ ضحاياه فى اليوم الواحد أربعة آلاف، فأظهر الغُورى ميلاً إلى العدل والورع تقربًا لله، ليرفع البلاء؛ فأبطل الضرائب ودعا الناس للإقلاع عن المعاصى، وفى عام ١٥١٣ فى سلطنة الغورى اجتاح الطاعون مصر، ومات كثيرٌ من الأمراء والكبراء، بل أُصيب الغُورى بمرضٍ فى عينيْه وتناقل الناس شائعة تقول إنه فقد بصره، وكعادته عاد الغُورى مع اشتداد الأزمة إلى ورعه ودعوة الناس لهجر المعاصى.
وحين غزا نابليون بونابرت مصر واتخذ التدابير الصحية، وكان من بينها إنشاء المحاجر والكورتينات الصحية فور وصوله إلى الإسكندرية، وحينما وصل القاهرة أقام حجرًا صحيًا فى بولاق، وأنشأ مستشفيات عسكرية وأخرى للأهالى، حتى إنه فرض على الأهالى نشر فروشهم على الأسطح لتعريضها للشمس والهواء، وعين مشرفين خصيصًا لهذا الأمر.
وفى عام ١٨٣١ ومع نشوب نزاع بين والى عكا عبدالله باشا الجزار ومحمد على باشا، قرر محمد على تجهيز حملة لتأديب الجزار، غير أنه مع حلول صيف ذلك العام داهم مصر وباء الكوليرا، واستشرى فى البلاد لمدة ٣٤ يوما، وحصد ما يقرب من ١٥٠ ألف نسمة، وامتد إلى الجنود الذين مات منهم خمسة آلاف، ومع انتهاء الوباء استأنف محمد على حملته.
وعرفت مصر أهوال الكوليرا عام ١٨٨٣ حينما اكتشف الطبيب روبرت كوخ سبب ذلك الوباء الأسود الذى قبض أرواح أربعين ألفا من المصريين. وفى مستشفى الإسكندرية الأميرى استطاع «كوخ» عزل ميكروب الكوليرا لأول مرة.
ولا يزال كبار السن فى مصر الآن يذكرون وباء الكوليرا الشهير سنة ١٩٤٧ الذى انتقل من الهند عن طريق بعض جنود الاحتلال الإنجليزى، ولقد بدأ الوباء فى معسكر الجنود الإنجليز فى التل الكبير، ثم انتقل إلى بلدة «القرين» بمحافظة الشرقية، ثم انتشر كالريح فى جميع أنحاء مصر، وقد أدى الوباء إلى حدوث حوالى عشرين ألف حالة وفاة.
أما كيف تعاملت الدولة المصرية وقوات الجيش والشرطة مع هذا الوباء؟، فتلك قصةٌ أخرى نرويها فى المقال القادم.. انتظرونا..!