نجحت البلدان الرأسمالية فى إنجاز نموها الاقتصادى فى مرحلة تاريخية مبكرة ثم لم تتوقف، بل نمت الرأسمالية فيها حتى غدت هى النظام الاقتصادى العالمى السائد حتى الحرب العالمية الأولى، وغدا اقتصاد أى بلد فى العالم مربوطا بعشرات الخيوط بهذا الاقتصاد الرأسمالى العالمى. لم تتشكل السوق الرأسمالية العالمية دفعة واحدة فى منتصف القرن التاسع عشر، وإنما تكونت على مدى طويل وعلى مراحل امتدت بداياتها إلى القرن السادس عشر، ففى مرحلة الرأسمالية التجارية حينما سيطر رأس المال التجارى، كانت المستعمرات مصدرًا أساسيًا للتراكم الاستثمارى. كان السعى الغالب عندئذ هو البحث عن منافذ تسويق المنتجات، واصطحب ذلك بعمليات نهب وسلب للبلدان التى تم اكتشافها. وفى مرحلة الرأسمالية الصناعية، حينما سيطر رأس المال الصناعى، قامت مستعمرات استيطانية، وارتبطت الرأسمالية الظافرة بالبحث عن مصادر الخامات اللازمة لصناعاتها، بالإضافة إلى البحث عن منافذ التسويق. وفى مرحلة الرأسمالية المالية، أصبحت المستعمرات احتياطيًا مندمجًا فى الاقتصاد الرأسمالى العالمى، وتخصصت فى تزويد الصناعة العالمية بخاماتها الأساسية، وذلك من خلال الاستثمارات الأجنبية.
أما بالنسبة لمرحلة الرأسمالية التجارية وهى المرحلة التى بدأت فى أعقاب اكتشاف رأس الرجاء الصالح، وامتدت لأكثر من قرنين ونصف القرن، من حوالى عام ١٥٠٠ إلى عام ١٧٧٠ حين بدأت الثورة الصناعية، يقول آدم سميت فى كتابه «ثروة الأمم» الصادر فى عام ١٧٧٦ «إن اكتشاف أمريكا واكتشاف الطريق إلى الهند الشرقية عبر رأس الرجاء الصالح هما أكبر الأحداث المسجلة فى تاريخ البشرية»، ويضيف قائلا: «كانت الفضة المستقدمة من القارة الجديدة بهذا الشكل من أهم السلع فى التجارة بين أطراف القارة القديمة، وبواسطتها اتصلت الأطراف النائية من العالم، وبفتحها لسوق جديدة لا تشبع لكل السلع الأوروبية، فلقد أتاحت فرصة لتقسيم جديد للعمل، وكذلك لتحسينات فى الفنون لم تكن لتحدث فى الدائرة الضيقة للتجارة القديمة، وذلك نظرًا لحاجتها إلى سوق تستوعب الجزء الأكبر من إنتاجها، ومن ثم فإن الطاقات الإنتاجية للعمل قد تحسنت، وزاد ناتجها فى كل دول أوروبا المختلفة، وزاد معها الدخل الحقيقى والثروة لسكانها، أما بالنسبة لرعايا كل من الهند الشرقية والغربية، فإن المكاسب التجارية التى كان يمكن أن تنتج من هذه الأحداث قد ضاعت عليهم وفقدت من جراء الكوارث الرهيبة التى سببتها».
لقد تميزت مرحلة الرأسمالية التجارية بالفعل بزيادة ملحوظة فى التبادل التجارى ونمو ملحوظ فى الإنتاج المعد للتصدير إلى المستعمرات، وأخذ الاهتمام يتحول من البحث عن المنتجات الأجنبية إلى البحث عن منافذ للسلع المحلية، وفى مقابل توابل الشرق ومنسوجاته لأوروبا كان ينبغى دفع أثمانها ببدائل أوروبية، فقدمت إنجلترا وفرنسا وأمريكا المصنوعات والسفن، وقدمت إفريقيا السلعة البشرية، وقدمت المزارع فى المستعمرات المواد الأولية، حتى إن سفن العبيد كانت تقدم إلى إفريقيا محملة بشحنات من السلع المصنوعة تتبادل بربح أول على شاطئ إفريقيا مقابل الزنوج الذين كانوا يباعون للمزارع بربح آخر مقابل شحنات من منتجات المستعمرات تذهب للبلدان الناشئة، كان الزنوج يشترون مقابل مصنوعات، وينقلون إلى المزارع لإنتاج السكر والقطن والنيلة والعسل، ومن ثم نمت الصناعة، وشكلت الأرباح المستمدة من هذه التجارة المتعددة الجوانب تيارا رئيسيًا للتراكم الرأسمالى الذى تولى تمويل الثورة الصناعية. وكانت التجارة الأوروبية عصب التقسيم الدولى للعمل الذى نشأ عندئذ بين الشرق والغرب، وفى عام ١٦٠٠ أسست شركة الهند الشرقية الإنجليزية، وبعدها بسنتين أسس الهولنديون الشركة العامة للهند الشرقية، وتمتعت باحتكار التجارة فى المحيطين الهندى والهادى، وفى عام ١٦٢١ أسسوا شركة الهند الغربية التى أخذت تباشر أعمالها فى القارة الأمريكية، وفى الوقت نفسه كان الفرنسيون ينشئون شركة الهند الشرقية، وشركة السنغال فى إفريقيا. وفى البداية كان الأسلوب هو ما أسميناه التراكم البدائى، من نهب الذهب والفضة وفرض العمل العبودى والسخرة وانتزاع الأراضى من أصحابها واقتطاع الجزية والإتاوات. كانت أوروبا مختلفة عن آسيا مثلا فى المهارة الصناعية، وفى مقابل الحرير والقطن والسكر والتوابل كانت أوروبا تصدر الآلات، ثم تطور اقتصاد المزارع الكبرى فى آسيا وأمريكا، وقامت العلاقات الاستعمارية على العبد المستورد، وأدخلت آسيا وإفريقيا فى العملية التاريخية للتطور الرأسمالى العالمى، وأصبح اقتصادها مع تطور الرأسمالية العالمية اقتصادًا متخصصًا للتصدير. وغدا سكانها هم أكبر قوة إنتاجية تملكها. وبذلك تم للرأسمالية الناشئة الاستيلاء على البلدان غير الأوروبية التى كان سكانها عاجزين عن حماية أنفسهم.
إن نمو التجارة الخارجية فى القرن الثامن عشر هو الذى أتاح قدرا كبيرا من الثروة المتراكمة لتمويل الصناعة الوليدة فى الربع الأخير من القرن المذكور. فتراكم رأس المال التجارى والنقدى فيما بين عامى ١٥٠٠ و١٧٥٠ وهو الذى تراكم جراء التجارة مع الهند الغربية وأمريكا وهو الذى قام بتمويل جيمس وات والمحرك البخارى.
فى هذه المرحلة من مراحل تطور الرأسمالية، التى امتدت حتى سنة ١٨٧٠ تقريبًا. كانت الثورة الصناعية تحتاج إلى موارد الخامات مثلما تحتاج إلى منافذ التصريف، وعندئذ أخذت تتبلور أفكار حرية التجارة، على أساس أن التجارة الحرة سوف تؤدى فى ظروف النمو غير المتساوى لبلدان العالم إلى تقسيم دولى للعمل يجعل لكل بلد إنتاجا ينسجم مع مزاياه الطبيعية، وكان معنى ذلك الإقرار بحتمية تخصص بلدان آسيا وإفريقيا وأمريكا الجنوبية فى إنتاج الخامات، وتخصص البلدان الأوروبية الرأسمالية فى الإنتاج الصناعى. وبالفعل تضاعفت التجارة العالمية ثلاث مرات فيما بين عامى ١٧٠٠ و١٨٢٠، وتضاعفت خمس مرات فيما بين عامى ١٨٢٠ و١٨٧٠. فطوال القرن التاسع عشر انتقل الاهتمام من البحث عن المنتجات الأجنبية إلى البحث عن منافذ المنتجات الصناعية، وصدرت أوروبا السلع الصناعية خاصة المنسوجات فى مقابل المنتجات الزراعية والخامات، حتى ذاك الوقت، على حد قول أندريه جوندر فرنك، وبينما كانت تجرى عملية مضاعفة الصادرات من الخامات من أمريكا اللاتينية التى كانت تشهد زيادة مماثلة فى الواردات من المصنوعات جلبت معها الدمار الذى حل بالصناعات المحلية، كانت الهند لا تزال تصدر كميات كبيرة من المنسوجات، وكان البريطانيون يقومون بإعادة تصدير كميات منها لأمريكا اللاتينية ولإفريقيا، ثم لم تلبث أن دمرت أغلب الصناعات الهندية.
وهنا يبدأ التبادل غير المتكافئ بالمعنى الضيق، ومع بدايته تتداعى النتائج تباعًا، فالدول الرأسمالية وهى الدول المتقدمة تستعيد عملًا أكثر فى مبادلة عمل أقل. إن التجارة الخارجية تساعد عندئذ على ترخيص عناصر رأس المال الثابت وتساعد جزئيا على ترخيص ضرورات الحياة التى يتبادل بها رأس المال المتغير أى الأجر، ومن ثم فإنها ترمى إلى رفع معدل الربح، وذلك بزيادة معدل فائض القيمة. وتنخفض قيمة رأس المال الثابت. وكل ذلك يتيح للبلدان الرأسمالية فائضا قابلًا للاستثمار، ينتزع من البلدان غير الرأسمالية وهى البلدان المتخلفة عندئذ، وهى التى تحرم بذلك منه، بينما يوجه إلى البلدان الرأسمالية التى تستفيد وحدها منه، الأمر الذى يضاعف بالتالى من حدة التبادل غير المتكافئ، ومن تخلف هياكل وأساليب الإنتاج.
ويتميز أسلوب الإنتاج الرأسمالى بأنه يؤثر على فروع الإنتاج بمعدل من التراكم، يتفاوت من فرع إلى آخر، وبذلك يصبح قانون النمو غير المتكافئ حقيقة، ومن خلال هذا القانون فإن التبادل غير المتكافئ لا يصبح هدفا وحسب، بل وسيلة مفيدة لمعالجة فجوة النمو. إن التبادل غير المتكافئ هو نتيجة عدم التكافؤ فى الأجور. وعدم التكافؤ فى الأجور محكوم بدوره بالفروق فى مستويات نمو القوى الإنتاجية، فإنه لا توجد مساواة فى المبادلات فى عالم يتميز بعدم المساواة فى التطور.
لقد قدمت الرأسمالية المنتصرة فى القرن التاسع عشر نظرية المزايا المقارنة أو النسبية تفسيرا للتجارة الدولية وقاعدة لازدهارها، غير أن ازدهار صناعة المنسوجات فى بريطانيا كان يتطلب إلغاء هذه الصناعة فى الهند، وتخصصت بلدان ومناطق بأكملها لزراعة القطن: فى جنوب الولايات المتحدة والهند وأندونيسيا ومصر، وعلى مثال صناعات السلع الرأسمالية، غدا إنتاج الخامات فى المستعمرات منذ القرن التاسع عشر إنتاجا كثيف رأس المال، يتطلب أموالا متزايدة وتكنولوجيا متجددة، لقد بدأت الثورة الصناعية بصناعات السلع الاستهلاكية، وبخاصة المنسوجات ثم امتدت بالضرورة إلى صناعات السلع الإنتاجية من خلال الصناعات المعدنية والميكانيكية، وازدادت بذلك أهمية رأس المال.
وانتقلت الرأسمالية من أوضاع التفتت إلى أوضاع التركز، وازدادت الأهمية النسبية للمشروعات الكبيرة وازداد نصيبها فى الإنتاج الإجمالى. وتركز عدد أكبر فأكبر من الأيدى العاملة والطاقات المنتجة فى الوحدات الإنتاجية الضخمة، ومن ثم فتح تركز الإنتاج السبيل لتجاوز حالة المنافسة الحرة إلى سيادة الاحتكار، فالمشروعات الكبرى هى التى غدت تفرض أسعارها وتحقق أرباحا عالية.
وللحديث بقية