لا أحد يختلف على دور عمر عبدالرحمن- زعيم الجماعة الإسلامية وأميرها- الذي أفتى بقتل المئات من ضباط الشرطة في الصدام الشهير بين تنظيم الجماعة الإسلامية الذي نشأ في منتصف السبعينيات من القرن الماضي والدولة المصرية في تسعينيات نفس القرن.
البداية الحقيقة كانت في فتوى الشيخ الذي تخرج في مؤسسة الأزهر الشريف عندما أفتى بقتل الرئيس المصري الأسبق محمد أنور السادات، فرغم فتواه صدر حكم ببراءته من المحكمة، وهنا تكمن المفارقة التي ترجمها في كتابه "كلمة حق"، وهي عبارة عن مرافعته التي استغرقت أكثر من ثلاثة أعوام ليخرج عام 1984.
المحكمة التي أحيل إليها زعيم الجماعة الإسلامية أصدرت حكمًا ببراءته، بعدما دافع عن وجهة نظرة بأن قتل "المعين" يستلزم أذن ولي الأمر، كما أن تكفيره غير جائز هو الآخر إلا من خلال إجماع على الفتوى، وتصديق من العلماء، وبرر فتواه بتكفير الرئيس السادات وهو بمثابة "ولي الأمر" بأنه لا يعني جواز قتله، وإذا حدث لاستلزم ذلك حسب فهمه للدين موافقة من بيده الولاية، وهنا كانت مفاجأة الحكم الذي أصدرته المحكمة في ذلك الوقت.
العجيب في شأن أمير الجماعة الإسلامية، وشأن الحكم الصادر في حقه بالبراءة، رغم سنوات السجن التي قضاها في أشهر محاكمة على الأقل في الثلاثين عامًا الماضية، اعترافه بتكفير المجني عليه وقتها رئيس الجمهورية، غير أنه دافع عن رأيه في الفرق بين الفتوى بالقتل والفتوى بالتكفير، رغم أنه بات مفهومًا للمختصين أن التفجير حالة تأتي متناغمة وتالية للتكفير، فما من تكفير إلا يتبعها تفجير، وما من تفجير إلا ويتأكد لك أنه سبقه حالة من التكفير.
طبعت الجماعة الإسلامية مرافعة أميرها أمام المحكمة في كُتيب جاب البلاد شرقًا وغربًا، حمل عنوان "كلمة حق"، ليستقر في عقل وقلب قادة التنظيم في ذلك الوقت، أنّ الجماعة قادرة على إنقاذ أتباعها من حبل المشنقة، كما أنها قادرة على قتل من تصدر بشأنهم فتوى من أئمة التنظيم، حتى بات العنف مؤصلًا ومشرعنًا، واستقر داخل أفئدة التنظيم الذي حمل البندقية تجاه خصومه منذ اللحظة الأولى لنشأته عام 1974.
التنظيم آمن بالسلفية الجهادية، وعمل على ترسيخ رؤيته الشرعية عبر بحوث كثيرة كان أبرزها "قتال الطائفة الممتنعة" و"الميثاق" وغيرها، شبت القيادات على كلمات كارم الأناضولي الصادر في حقة حكمًا بالإعدام وأحد المتهمين الرئيسين في قضية الفنية العسكرية منتصف السبعينيات، لتعتلي أصوات هؤلاء الشباب بضرورة إقامة الخلافة الإسلامية، بدءوها بعصا من خلال جماعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر داخل التنظيم في أقاصي الصعيد، وانتهوا بأسلحة وجهوها إلى صدور خصومهم من ضباط الشرطة والمثقفين والسياسيين والإعلاميين والأقباط حتى المواطنين العاديين، وانتهت بأسلحة ثقيلة وجناح عسكري ظهرت ملامحه الحقيقة في العام 1987.
الجماعة الإسلامية لم تكن بعيدة عن العنف، ظهرت فكرته الأساسية عن فهم خاطئ لفكرة الدين ورؤية مشوهة للجهاد، منذ اللحظة الأولى ويداعب خيالها مواجهة الدولة بالسلاح لإقامة ما تسمية الدولة الإسلامية، وهنا كان دور عمر عبدالرحمن في توفير البيئة الشرعية الحاضنة للعنف عبر مئات الفتوى.
قُتل المئات بفتاوى من الشيخ عمر عبدالرحمن مشاركًا مجلس شورى الجماعة الإسلامية في ذلك الوقت، مرات كان يعترض على بعض القرارات التي يُصدرها مجلس الشورى بشأن قتل الأشخاص أو تنفيذ العمليات المسلحة لكنه في النهاية كان مضطرًا للقبول، وقد فعل ذلك، فهذه الدماء الذكية التي قُتلت غدرًا حتمًا سوف تشتكي إلى الله من كل من ساعد على قتلها، ولا شك من نفذ القتل، فكلاهما متساويان في العقوبة الدنيوية وفي الآخرة التي قررها الإسلام، "وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا".
الحالة التي يعيشها النّاس الآن بخصوص عمر عبدالرحمن بين رثاء للرجل الذي مات غريبًا عن أرضه ووطنه على خلفية قضائه عقوبة السجن مدى الحياة في أحد السجون الأمريكية، فهذه الحالة لا تختلف كثيرًا عن التي ظهرت على بعض النّاس بعد مقتل أسامة بن لادن زعيم تنظيم قاعدة الجهاد في 2011، حيث أقيمت صلاة الغائب على جثمانه في مساجد كثيرة في قلب القاهرة في ظل حالة الفوضى التي عمت البلاد بعد ثورة يناير 2011، وهو ما يؤكد "داعشية" كثير مما نظنهم أسوياء.
يدافع أنصار عمر عبدالرحمن عن الشيخ الضرير والمعلم الذي خط بيده "موقف القرآن من خصومة كما تمثلها سورة التوبة" وحصل على درجة الدكتوراه، يرى هؤلاء أن الرجل صبر على السجن، وكان مواجهًا للدولة، ومات بعيدًا عن أرضة، وقد تناسى كل هؤلاء الجرائم التي ارتكبها الرجل في فتاوى اجتهد فيها وأخطأ، وكانت ضحاياه بالمئات، دماء سفكت وأرواح اشتكت إلى خالقها من أخذ قرار بإعفائها من حياة وهبها إليها الخالق.
الرجل الآن بين يدي الرحمن يُحاسبه كيف يشاء، ولكننا حتمًا سوف نذهب إلى نفس الطريق الذي ذهب إليه ويحاسبنا على ما نقول ونخط بأيدينا، فالكلمة تقتل إذا حرضت، والفتوى لها فعل السحر على أصحابها عبر الأجيال المتعاقبة، فإما أن تقولوا خيرًا أو لتصمتوا واتركوا حسابه إلى الله.