لم تقع «فرح» فى الحب، بل مشيت إليه، بخطى ثابتة، مفتوحة العينين، حتى أقصى مداهما، كما مشيت إليه الشاعرة السورية «غادة السمان» فى قصيدتها المدهشة «صباح الحب أيها الفرح».
تقول: (إنِّى واقفة فى الحب، لا واقعة فيه، أريدك بكامل وعيى، أو بما تبقى منه، بعد أن عرفتك! قررت أن أحبك، فِعْل إرادة، لا فِعْل هزيمة، وها أنا أجتاز نفسك المُسَيَّجَة، بكل وعيى أو جنونى، وأتوق إليك، تضيع حدودى فى حدودك، ونسبح معًا، فوق غيمة شفافة، مُبَارك كل جسد ضممته إليك، مُبَاركة كل امرأة أحببتها قبلى، مُبَاركة الشفاة التى قبلتها، والبطون التى حضنت أطفالك، مُبَارك كل ما تحلم به، وكل ما تنساه، لأجلك، ينمو العشب فى الجبال، لأجلك، تولد الأمواج، يرتسم البحر على الأفق، لأجلك، يضحك الأطفال فى كل القرى النائية، لأجلك، تتزين النساء، لأجلك، اخترعت القبلة، وأنهض من رمادى، كل صباح، لأحبك، لأصرخ: صباح الحب أيها الفرح).
لم تصدق «فرح» نفسها، وهى طفلة صغيرة، عمرها ٦ سنوات، حين شاهدت لأول مرة على شاشة «التليفزيون»، إحدى الحلقات الدرامية المأخوذة عن المجموعة القصصية «حكاية وراء كل باب» للكاتب الكبير «توفيق الحكيم»، التى لعبت فيها الأسطورة «فاتن حمامة» دور البطولة أمام فارس السينما المصرية «أحمد مظهر» عام ١٩٧٣.
أذهلتها قوة «ليلى»، الفتاة الرقيقة والمثقفة، التى رفضت أن تعيش عمرها كله فى انتظار «كلمة» من الرجل الذى تحبه، كعصفور يقف فى حضن الشجر، يسلك ريشه، ويسرحه بمنقاره، ولا يشغله سوى انتظار صياده، الذى قد يأتى، أو لا يأتى أبدًا.
راقبت «ليلى» كل تفاصيل حياته الشخصية والعامة، حتى عرفته تمامًا، فصَوْته، وتفكيره، ومشاعره، وكل حركاته، تشد انتباهها، والأهم هو صخب ذلك الإحساس الغامض، الذى ظل يطاردها بضراوة، صارخًا: هو أيضًا ينتظرك! لذا لم يكن أمامها سوى طريقة واحدة، وهى التقدم لطلب يَدُه، دون أن تخشى التعرض لرفضه، لم تر فى ذلك عيبًا، ما دامت هى صاحبة الإرادة الأولى.
تطلب «ليلى» مقابلة المحامى المرموق «فؤاد»، تدخل مكتبه الأنيق، تبادله التحية، تعرفه بنفسها، ثم تبادره فى نبرة جادة وهادئة: أعرفك جيدًا، قرأت كل كتبك ومقالاتك، وأعتقد أنك الرجل الذى طالما بحثت عنه طويلًا، ومن ثمَّ اسمح لى أن أتقدم لطلب يَدُكْ، وأمامك ٢٤ ساعة فقط للقبول أو الرفض.
لم يفكر لحظة واحدة، بل وافق على الفور، مذهولًا ومبهورًا، كأنه ينتظرها، أو يبحث عنها، أو يعرفها جيدًا، ثم طلب من «سكرتيره» سرعة استدعاء المأذون.
تنفَّست «فرح» بملء رئتيها، وكأن الزمن قد توقف أمام مرفأ للنجاة، ظل ساكنًا دومًا فى الوجدان، كمعجزة اجتازت حدود المكان، رمَّمَت كل شروخ وتصدعات حكايا «الحب» و«الغرام»، التى قرأت وسمعت عنها عبر الزمان، ورأت نهاية أبطالها أطلالًا متخاذلة ومتهالكة وباهتة البيان.
أحبت بكل ما فيها ذات يوم، كاتبًا، مرموقًا، لا يعرف عنها شيئًا، وبعد مضى عدة سنوات دون خطوة واحدة، قررت صفع كل خيبات وانكسارات الماضى والحاضر صفعة ناجزة، بأن تعيد نفس المشهد العبقرى على شاشة الواقع، على أن تلعب هى دور البطولة.
كان يكبرها سنًا بحوالى ١٥ عامًا، لكن كلماته المنقوشة على غلاف أحد كتبه عن حرية الخيال والحب والجنون، هى ما دفعتها بقوة لمحادثته بعد كلمته فى ندوة الثلاثاء بأتيليه القاهرة، ثم قابلته فيما بعد بمَكْتَبُه، كصحفية تجرى حوارًا معه، وأهدته قبل انصرافها رواية «مصلح البيانو الضرير» مع «كارت»، كتبت عليه: «إلى قلب بداخله إنسان»، «إلى طائر الحب والفن والفكر والجنون».
أيقظتها زقزقة العصافير ورائحة الورود فى صباح يوم مشرق، كدفء مشاعرها التى امتزجت بدمائها المتدفقة فى صمت طيلة ٤ سنوات، فارتدت أجمل ما لديها، ثم فاجأت والدها القعيد: سأتقدم اليوم إلى الرجل الوحيد الذى أحببته، لطلب يَدُه، فرد ساخرًا ومتشككًا: وحدك! ألا يُجدر بك اصطحاب أخيكِ الأصغر؟! فأجابت: لا، ينبغى أن أكتب روايتى بنفسى!
وقفت أمام البوابة الرئيسية، ففاجأها سائق سيارة فارهة: أستاذة «فرح» اتفضلى، أستاذ «شريف» فى انتظارك، وأوصلتها السيارة إلى مقر مكتبه، ثم بادرت السكرتيرة: اتفضلى، الأستاذ فى انتظارك.
اخترق قلبها همسات موسيقى ناعمة بمكتبه الفاخر، وبعد أن تصافحا، بادرت فى ثقة: أستاذ «شريف» أعرفك جيدًا من كتبك وندواتك ومقالاتك الأسبوعية، وحين قابلتك لأول مرة، أيقنت أنك الرجل الذى طالما بحثت عنه طويلًا، ومن ثمَّ اسمح لى أن أتقدم لطلب يد حضرتك!
تعانقت يداه؛ لإخفاء ملامح وجهه المَبْهوت، الذى احتدَّت حمرته، وبعد لحظات قليلة، مرت ببطء، وهى ساكنة، متوجسة! تحررت يداه بخجَل، وقال بحزن: أنا «مُرْتَبِط»!
لم تتوقع الرد، فذبحت فى لحظة مباغتة، لكنها أخفت نزيف جُرْحِها الغائر، ثم اعتذرت، وانصرفت مسرعة، تسبقها خطواتها!
ظل قلبها مشروخًا وإرادتها خائرة عدة سنوات، «هبلًا» و«عبطًا» و«أشياء أخرى» كثيرة، حتى شُفيَت تمامًا من مرضها وفقر حالها منذ أشهر قليلة، لتدرك أنها «الأقوى» و«الأنقى» و«الأروع»، وأنه لم يكن أبدًا رجل حياتها الهزيلة، بعد أن عثرت على جوهرتها الغائبة، والتحمت خيوط أنسجتها، وتحررت روحها السجينة.
وأخيرًا خفق قلبها وعقلها ووجدانها، ألحانًا وأشعارًا وأفكارًا، أعمق وأعذب وأجمل، واعترفت فى مختتم الرواية، أنها أحبت بجنون هذا الكائن «الخارق» و«المجنون»، وأنه هو البداية! وربما يصبح الوليد الوسيم هو نهاية الطريق المرسوم!