مما لا يقبل الشك أن شهادتى فى المفكر الكبير السيد ياسين هى شهادة مجروحة، فهذا الإنسان الكبير القلب لا يحتاج إلى شهادات من تلامذته أو من مريديه، يكفى القول أنه السيد ياسين، صاحب الفكر المتفرد فى وصف حالة المجتمعات السياسية العربية بكل أبعادها وبكل متاهاتها وتقلباتها التى مرت بها منذ أكثر من نصف قرن من الزمن وحتى يومنا هذا.
فى أيام دراستى الثانوية كنت دائما أقارن بين شخصيتين علميتين متفردتين فى علم الاجتماع السياسى بين علمية السيد ياسين وعلمية الدكتور على الوردى، كلاهما لم يلتق أبدا على حد معلوماتى المتواضعة لكن كليهما وضع أساسا علميا لعلم الاجتماع السياسى الحديث، لكن تفرد السيد ياسين كان لافتا للنظر بالنسبة لنا كمهتمين بالعلوم السياسية خصوصا فى كتابه الشهير «الشخصية العربية بين مفهوم الذات وتصور الآخر» وكان السيد ياسين من خلال قراءاته العلمية العميقة للقضايا والظواهر والأحداث والمشكلات التى يتعرض لها المجتمع العربى عموما والمصرى بشكل خاص ومنها مفهوم المواطنة والعولمة وهى إحدى أهم مميزات كتابات السيد ياسين، لكن مع تصاعد التطرف والتكفير والعنف وتبنّى جماعات الإسلام السياسى القتلَ منهجًا ونظرية فى أوائل ثمانينيات القرن العشرين، بدأ السيد ياسين العمل على تحليل ونقد الظاهرة ليقدم خارطة مهمة لجماعات الإسلام السياسى، كاشفًا ومفندًا الأسس التى قامت عليها مجمل أفكار وآراء قادتها.
انفرد السيد ياسين فى تسعينيات القرن الماضى بالدعوة إلى تجديد الخطاب الدينى ومطالباته المتكررة تارة من خلال مقالاته وأخرى من خلال كتبه التى ضجت بها المكتبات العربية بتغيير الخطاب الدينى خصوصا فى الفترة الزمنية التى شهدت زيادة فعالية خلايا الإرهاب فى صعيد مصر، فواجهها السيد ياسين بقلمه وفضح بعدها كل ما سمى بالمراجعات الفكرية، وهو العارف جيدا خبايا هذه التنظيمات وأيديولوجياتها وطريقة تفكيرها فاضحا إياها من خلال العديد من مقالاته فى مئات الصحف المصرية والعربية ومنها أيضا كتابه «نقد الفكر الدينى».
شرح السيد ياسين بطريقته العملية المبنية على البحث العلمى الرصين حالة مصر قبل ثورة ٢٥ يناير وكان من أوائل المبشرين بأن بقاء مصر فى حالة الفراغ السياسى سيؤدى إلى علو كعب جماعة الإخوان، وقد حصل ذلك بالفعل، ومن يقرأ كتاب السيد ياسين تحولات الأمم والمستقبل العالمى الصادر عام ٢٠١٠ فسيعلم جيدا أنه قرأ المشهد جيدا وحتى ما بعد ثورة ٢٥ يناير أصدر كتابه المشهور «الشعب على منصة التاريخ ٢٠١٣» موضحا فيه أن الإخوان إذا بقوا فى السلطة التى استولوا عليها فستكون نهايتهم وكرر ذلك وفى نفس العام من خلال كتابه «صعود وسقوط حركات الإسلام السياسى» متنبئا بثورة ٣٠ يونيو التى أسقطت حكم الإخوان المسلمين وهو صاحب المقولة الشهيرة «هكذا قامت ثورة ٣٠ يونيو باعتبارها انقلابا شعبيا ضد حكم الإخوان المسلمين الديكتاتورى، الذى لقى تأييدا جسورا من القوات المسلحة المصرية بقيادة الرئيس عبد الفتاح السيسى».
شرفت بأول لقاء لى مع السيد ياسين فى مركز الأهرام للدراسات وكنت حينها الباحث المغترب بين الأوطان الباحث عن المعلومة وفى ذات الوقت الباحث عن وطن، كان رؤوفا بى جدا وكريما فى مشاعره المحبة للقومية العربية ومحبا لكل عربى ولكل إنسان يمشى على الأرض، ثم كان هناك لقاء ثان فى رحاب الجامعة العربية عندما كنا نصوغ أفكارا لعقد أول قمة ثقافية عربية، ثم كانت المفاجأة فى رحاب المركز العربى للبحوث والدراسات، فتلزمنا مرة أخرى وكان للدكتور عبد الرحيم على دور كبير يعجز اللسان عن شكره فسمح لى أن أنهل من السيد ياسين وبشكل يومى ما ظمئت سنى عمرى باحثا عنه.
كان السيد ياسين محبا شغوفا بعمله محبا للناس ومحبا للخير، ما سأله طالب علم إلا وكان له المعين الذى لا ينضب، قدم للإنسانية أكثر من ٤٠ كتابا فى شتى العلوم الجنائية فهو رجل القانون الباحث والمتخصص وأيضا فى الفلسفة وعلم الاجتماع السياسى وباقى العلوم السياسية منفردا عن الباحثين بكم الإنتاج الغزير من الأبحاث والمقالات العلمية التى أضحت مناهج للعلم تدرس فى الجامعات والكليات العربية.
السيد ياسين ما زال قلبه ينبض، ما زال بيننا، ما زال يفكر ويستعد لمعارك فكرية جيدة، وهو الذى انتصر فى الكثير منها وهو إن شاء الله قادر على أن ينتصر على المرض، زرته أكثر من مرة وهو فى مشفاه، وفى كل مرة أخرج وأنا أحمل طاقة إيجابية وتحديا كبيرا، أثناء كتابة هذا المقال حملت معى آخر كتب السيد ياسين «مابعد الثورة: الزمن التنموى والتحديث الحضارى» وهو كتاب استشرافى لمستقبل مصر «٢٠٢٠ -٣٠٢٠» وكم كان سعيدا وأنا أحمل كتابه بين يدى، وسعادتى أكثر عندما قال لى أريدك أن تقرأه جيدا وسنتناقش فيه، نعم أعدك سنتناقش فيه يا أستاذنا الكبير، وشكرا للدكتور عبدالرحيم على الذى ما مر يوم إلا وكان يطمئن على صحة السيد ياسين ويسأل أطباءه ويتابع الحالة مع أسرته، فهذه شيم العلماء وديدنهم، عندما تمر الأزمات بأحدهم تداعى الزميل والأخ ليقف بجانب زميله فهما قامتا علم ومعرفة وإنسانية كبيرة، شكرا لنجل السيد ياسين الأخ عمرو فقد تحمل الكثير، وشكرا لكل من اهتم بحالة السيد ياسين، القامة والقيمة والإنسان.