السبت 23 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

الانحراف في تفسير القواعد القانونية

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

تدهورت مؤسسات عديدة بعد ثورة 25 يناير لأسباب متعددة. ويمكن القول إن نشوء المؤسسات وتطورها يمثل أحد المباحث العلمية الهامة في علوم متعددة، مثل القانون وعلم الإدارة وعلم الاجتماع، لدرجة أن هناك فرعًا خاصًا من فروع علم الاجتماع اسمه «سوسيولوجية المهن»، ويعني ذلك: الدراسة الاجتماعية للمهن المختلفة؛ وذلك على أساس أن كل مهنة لها اشتراطات دقيقة في اختيار وتدريب من يعملون بها، في ضوء منظومة من القيم الأساسية التي تحكم عملها.
خذ على سبيل المثال مهنة البحث العلمي. هذه المهنة لها شروط دقيقة في اختيار من يدخلونها على أساس التفوق العلمي. غير أن التفوق العلمي لا يكفي بذاته؛ لأن هناك في مناهج البحث فصلاً خاصًّا يطلق عليه «تنشئة الباحث العلمي»، ويعني ذلك تدريبه على احترام القيم العلمية الراسخة، وفي مقدمتها الأمانة العلمية والدقة العلمية والحرص على الإبداع، في ضوء الحرص على الاعتراف الموثق بفضل إنجازات الباحثين السابقين.
وهناك تقاليد راسخة في مجال عقاب من يخرجون على هذه القيم، وخصوصًا في مجال السرقات العلمية، حين يسطو باحث على إنجاز باحث آخر بغير الإشارة العلمية الواجبة.
ونفس القواعد تنطبق على المهنة القانونية. وتتكفل كليات الحقوق بتعليم الطلبة أصول القانون والقواعد الصحيحة لتفسيره. وأهم من ذلك غرس مجموعة من القيم السلوكية التي ينبغي أن يحترمها من يعملون بالقانون، سواء في ذلك المحامي أو وكيل النيابة أو القاضي.
وهذه القيم ليس شرطًا أن تكون مسجلة في مدونة سلوك؛ لأن العرف المستقر تكون له أحيانًا قوة القانون. على سبيل المثال من بين هذه القيم أنه لا ينبغي على القاضي أو وكيل النيابة أن يكثر من الاختلاط بالناس، وأن عليه أن يكون حريصًا في علاقاته الاجتماعية؛ لأنه لو خالط الناس بغير تمييز، في المقاهي أو الأماكن العامة، فقد يجد واحدًا ممن خالطهم يقف أمامه متهمًا أو مجنيًا عليه. ولذلك درجت القيم القانونية على أنه من حق القاضي أن يتنحى عن نظر قضية معينة إذا ما استشعر الحرج لاكتشافه أن أحد أقربائه مثلاً، أو أحد أصدقائه، طرف من أطراف القضية.
ومن ناحية أخرى هناك تقاليد راسخة في تفسير القواعد القانونية. وهذه عملية تتطلب من ناحية معرفة دقيقة باللغة وبالمنطق؛ لأن النص القانوني يمكن تفسيره بطرق متعددة، ولكنها جميعًا تفترض اكتساب هذه المهارات اللغوية والمنطقية؛ حتى يستطيع من يفسر النص أن يجتهد بصورة موضوعية في إنزال حكمه على الواقع.
ولذلك لا بد لمن يفسر القاعدة القانونية أن يكون خبيرًا بالواقع الاجتماعي، وبالتغيرات التي تطرأ عليه؛ حتى يكون التفسير مطابقًا لواقع الحال.
أكتب كل هذه الملاحظات العامة بصدد التصريح المريب للمستشار المتحدث باسم النائب العام، والذي دعا فيه المواطنين عمومًا أن يمارسوا دورهم في القبض على المخربين وتسليمهم للشرطة. واعتمد في ذلك على نص قديم أدخل في قانون الإجراءات الجنائية يقول إن من حق المواطنين الإمساك بمن يرتكب جريمة ويسلمه إلى الشرطة.
والتفسير الصحيح لهذا النص هو أنه لا ينطبق إلا في حالات التلبس الظاهرة، والتي ليس فيها خلاف، كأن يشاهد المواطنون مواطنًا يسرق علانية فيمكن لهم أن يمسكوه ويسلموه للشرطة بشرط توافر الشهود. وكذلك لو شوهد أحد المواطنين وهو يشرع في قتل مواطن آخر أو قتله فعلاً فيحق في هذه الحالة الإمساك به وتسليمه للشرطة.
أما هذه الدعوة الفوضوية للمواطنين أن يعتقلوا المخربين، هكذا دون أي تحديد، ففي ذلك فتح باب الاحتراب الأهلي؛ حيث يصبح هذا النص –على عكس إرادة المشرع – بابًا للكيد والانتقام والتجني.
وكان على النائب العام، الذي نفى أنه صرح بأن أي مواطن في هذه الحالة له صفة الضبطية القضائية، أن يعتذر اعتذارًا علنيًّا عن خطئه في تفسير النص؛ لأنه أساسًا لم يراعِ الواقع الاجتماعي المتغير في مصر الآن.
هناك انفلات أمني واسع المدى، وفوضى اجتماعيه لا حدود لها، وتختلط الوقائع في ظل المظاهرات الجماهيرية الحاشدة؛ بحيث لا يمكن اطلاقًا التفرقة بين الثائر والبلطجي، ولا بين القاتل والمقتول، ولا بين المتهم والمجني عليه.
ولذلك حين يأتي النائب العام ويدلي بهذا التصريح، المبني على تفسير خاطئ لمادة في قانون الإجراءات الجنائية، فكأنه يفتح الباب عامدًا متعمدًا لممارسة العنف الجماهيري في المجتمع، ويتيح الفرصة للتيارات الدينية المتطرفه لكي تعلن –كما حدث فعلاً– تشكيل لجان شعبية لحفظ الأمن، أو بعبارات أخرى: ميليشيات إرهابية تحل محل قوات الشرطة، وتمارس إرهاب الناس بغير تمييز.
لقد أخطأ النائب العام، وكان على مجلس القضاء الأعلى أن يصدر تصريحًا ينفي فيه التفسير المشوه، الذي قدمه بناء على نص قديم، من شأنه في الواقع إشاعة الاضطراب في المجتمع.