لا شك أن المعرفة السليمة بالقوانين الموضوعية لعلم الاقتصاد السياسى هى مسألة أساسية فى التوصل إلى الأساليب العلمية للإدارة، وفى هذه الحدود يجوز الحديث عن علم للإدارة لا تختلف أساسياته من اقتصاد رأسمالى إلى اقتصاد اشتراكى، أو من اقتصاد السوق إلى اقتصاد الخطة، وأكثر من ذلك أساسية معرفة واقع الاقتصاد القومى نفسه بحدوده وإمكانياته، ثم الانطلاق من هذا الواقع عند اتخاذ الإدارة لقراراتها، وتشتد الحاجة إلى هذه المعرفة الواقعية كلما ابتعد الاقتصاد المتخلف عن آليات السوق العفوية واتخذ طريقه قدما نحو التخطيط، عندئذ تحتاج الإدارة إلى أكبر قدر من المعلومات والبيانات كما تستطيع أن تتخذ القرار المناسب، وعندئذ تختلف أساليب إدارة الاقتصاد المتخلف وبالذات القطاع العام فيه عن أساليب إدارة كل من اقتصاد السوق الرأسمالية واقتصاد السوق الاجتماعية.
إن الوحدة الاقتصادية داخل القطاع العام ليست مجرد مصنع للإنتاج يقف على رأسه رئيس أو مدير وإنما هى خلية حية تقوم على تراكم اجتماعى وقوة عمل اجتماعية من أجل تحقيق أهداف المجتمع، وعندئذ تعتبر الإدارة هى عملية تعبئة جميع القوى المنتجة من مادية وبشرية من أجل إنجاز أهداف الخطة، ويصبح كل من يعمل بهذه الوحدة الاقتصادية مسئولًا مباشرة عن نشاط الوحدة وإنجازها.
وتقوم الإدارة عندئذ، فى ظل أسلوب التخطيط، على شبكة من علاقات الإنتاج لا توجد فقط داخل الوحدة الاقتصادية وإنما تنسج فيما بينها وسائر الوحدات الاقتصادية والمجتمع.
ونظرًا لتعدد الهياكل الاقتصادية فى المجتمع النامى، فإن القطاع العام مؤهل بحكم طبيعته لأن يلعب دور المنظم لعلاقات هذه الهياكل فيما بينها، ومن ثم فإن نجاح القطاع العام الموجود داخل المجتمعات المتقدمة والنامية والفقيرة يفترض اتخاذه موقفا سليما من القطاع الخاص، ولهذا يجب منذ البداية تحديد مجالات نشاط القطاع الخاص بوضوح وتأمين استثماراته فيها وإحاطتها بكل المزايا الحافزة على إعادة فائضه إلى دورة الأعمال، أن وضع تنظيمات مستقرة للقطاع الخاص تكفل له التزود بالخامات والمعدات والآلات، وتوفر الائتمان، وتقر أوضاعا ضريبية سليمة، وتقيم علاقة صحية فيما بين القطاع الخاص والقطاع العام، مسألة لا مفر من حسمها بوضوح خاصة فى كل بلد نامى يشق طريق الإصلاح الاقتصادى والتنمية،
وجدير بالذكر أن مفهوم القطاع الخاص ينصرف فى الواقع إلى قطاعين مختلفين، وأن يكن يجمع بينهما الاستناد إلى الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، هذان القطاعان هما:
أ - قطاع الإنتاج السلعى الصغير سواء فى الزراعة أو الصناعة أو النقل، وهو قطاع يقوم على الجمع بين الملكية والعمل فى شخص واحد، ولذلك فإن الإنتاج فيه لا يعتبر إنتاجًا رأسماليًا بعد.
ب - قطاع الإنتاج السلعى الرأسمالى، سواء فى الزراعة أو الصناعة أو النقل، وهو قطاع يقوم على الفصل بين الملكية والعمل، بل وقد يصل إلى حد الفصل بين الملكية والإدارة، وهذا هو قطاع الإنتاج الرأسمالى حقا أو هو المقصود بالقطاع الخاص.
وبينما يحتاج قطاع الإنتاج الصغير لأسلوب التنظيم التعاونى، يتطلب قطاع الإنتاج الرأسمالى القائم على عمل القوانين الموضوعية الرأسمالية تنظيما من نوع آخر يتمثل فى التدخل غير المباشر للدولة، يتمثل فى التوجيه والإرشاد والتعاون والتكامل والمساندة والتشجيع والرقابة وتحديد الأدوار وتوازنها بين قطاعات الأنشطة الاقتصادية وخاصة القطاع العام والقطاع الخاص.
غير أن ذلك كله يتطلب على عكس ما قد يتوقع البعض، قطاعًا عامًا قويًا، ولذلك ينبغى فى الوقت نفسه أن تتصاعد مسئوليات القطاع العام حتى يكتمل له الدور الفاعل والمؤثر فى التنمية الاقتصادية، وما يتضمنه ذلك من مسئولية عن تنمية القطاع الخاص.
أ - فمن جانب، يعمل القطاع الخاص فى الأساس طبقًا لآلية السوق، غير أن الخطة القومية ينبغى أن تقدم العناصر الأساسية لاجتذاب القطاع الخاص إلى التنفيذ الفعلى للمهام الموكولة إليه فيها، ولذلك يجب أن تتخذ الدولة مجموعة الإجراءات الاقتصادية والمالية، بالإضافة إلى الإجراءات الاجتماعية، التى تضع القطاع الخاص فى موضع يجعله يعمل من تلقاء نفسه فى الاتجاه المرسوم فى استراتيجية الدولة نحو الإصلاح الاقتصادى والتنمية.
ب - ومن جانب آخر، فإن القطاع العام ينبغى أن يعمل طبقًا للخطة القومية للتنمية، ولذلك ينبغى أن تكفل هذه الخطة للقطاع العام المشاركة القوية فى الاقتصاد القومى مثل مصادر التمويل والصناعة الثقيلة والتجارة الخارجية وتجارة الجملة والتشييد والنقل، متجاوزًا بذلك الحدود المعروفة لما يسمى بالمرافق العامة، كما ينبغى أن تتحدد مسئوليته عن النمو المتوازن للاقتصاد القومى كما ترسمه الخطة القومية إذا كان هناك خطة، وعندئذ يمكن أن يأتى التزام القطاع الخاص بتحقيق أهداف المجتمع كما تحددها الخطة القومية من خلال التنظيم والرقابة التزاما طبيعيا، ليس فقط لأنه تحدد فى الخطة القومية كتوجيه للقطاع الخاص، بل لأنه يكون فى مصلحة القطاع الخاص نفسه.
وهنا يمكن الحديث عن تقسيم العمل فيما بين القطاعين، وإذا كان للقطاع العام أن يتولى تطوير الفروع الإنتاجية التى تتميز بكثافة رأس المال وبطء دورانه وضآلة عائده على الأقل فى البداية، فإن رأس المال الخاص قد يتولى المشروعات التى تعمل بالاستناد إلى منتجات القطاع العام ومنافذه، ويتم الاعتماد فى مثل هذا النمط من تقسيم العمل على تنظيم ربحية الفروع ذات الأهمية الحاسمة فى عملية التنمية وخلق الدافع لرأس المال الخاص لإنشاء وتوسيع وتحديث المشروعات القائمة بداخلها، مما يساعد على تعجيل وتوضيع التراكم الرأسمالى، وإلا فإن ضيق السوق المحلية سوف يدفع رأس المال الخاص إلى منحنيات المضاربة والربا والتجارة. ومع ذلك فإنه ينبغى أن يكون معروفا أن مشاركة الدولة فى عملية التنمية لا تحل بذاتها كل مشكلات التنمية، وأن الركون إلى قيام القطاع العام لا يعنى شيئًا فى حد ذاته، ووجود القطاع العام لا يكفى لأول وهلة لفهم طبيعة مجتمع ما، فهناك قطاع عام موجود تقريبًا فى كل المجتمعات المعاصرة، وهناك مشروعات عامة فى كثير من البلدان النامية لا تزيد فى حقيقتها على أن تكون مجرد محطات للشركات المتعددة الجنسيات.
لذلك يتوقف الأمر على علاقات القوى بين الطبقات الاجتماعية والقوى السياسية داخل كل مجتمع، يتوقف الأمر على الطبقة أو الطبقات التى تسيطر على السلطة فى الدولة.
وبصفة عامة، فإن القطاع العام أو رأسمالية الدولة فى البلدان النامية ظاهرة تقدمية، إذ تقوم على التصنيع وترمى إلى الاستقلال وتصفية التخلف والتبعية، غير أن طبيعة القطاع العام إنما تتحدد بالمصالح التى يخدمها هل هو يخدم الأمة كلها أم يخدم طبقة معينة من طبقات المجتمع، وعندئذ يتوقف الأمر على تحديد طبيعة الطبقة أو الطبقات التى تمارس السلطة السياسية فى الدولة، وبعبارة أخرى، فإن الصراع الاجتماعى من أجل التأثير على سياسات الحكومات وإمكان استخدام سلطة الدولة لأهداف التنمية هو الذى يحدد فى النهاية مكانة القطاع العام فى الاقتصاد القومى، فإذا ما تحولت السلطة فى الدولة إلى أيدى الطبقة التى تسعى إلى تحقيق مصالحها الذاتية فقط ولا هم لها إلا الجرى وراء الربح، فإن القطاع العام يتضاءل ليصبح فى خدمة الرأسمالية الخاصة ويكف عن ممارسة دوره الوطنى فى التنمية، بل وقد يكف عن مهام التنمية بالمرة، كذلك الشأن إذا ما كانت بداخل الدولة رأسمالية بيروقراطية تقود القطاع العام وتحوله إلى قطاع خاص لها وتضعه فى خدمة القطاع الخاص كله، عندئذ فإن التلقائية تعود لتسود التطور الاقتصادى، أما الخطط التى توضع فإنها لا تنفذ، وبذلك يسيطر رأس المال الخاص بالفعل على الرغم من وجود القطاع العام.
وغالبًا ما يتخذ الصراع حول القطاع العام صورة التسليم بوجوده مع رفض دوره الوطنى، وعندئذ تجرى العادة على تحميل القطاع العام مسئولية إنشاء الهياكل الأساسية للنقل والمواصلات والطاقة، وبناء الصناعات الأساسية كالصلب والأسمنت والكيماويات، فمثل هذا النشاط الاقتصادى موات لنمو الرأسمالية الصناعية التى تحجم عادة عن الاستثمار فيه مع حاجتها إليه، ومن ثم تنمو هذه الرأسمالية فى سوق تتمتع بالحماية إلى حد كبير، وفى هذا الوضع، غالبا ما يواجه القطاع الخاص مشكلة تتعلق بتعبئة الموارد، فمدخراته المستمدة من فائضه لا تغطى فى العادة كل استثماراته، ومن ثم يتم تمويل الباقى بالاقتراض من البنوك وغالبًا ما تكون هذه البنوك وطنية، ومن ثم فإن القطاع المصرفى الوطنى يمثل مصدرًا رئيسيًا من مصادر تمويل القطاع الخاص، وبذلك يوضع القطاع العام من البداية أو يتحول فيما بعد ليكون فى خدمة القطاع الخاص الذى يعمل عندئذ كاقتصاد رأسمالى يخضع لقوانين الرأسمالية الصارمة.
غير أن الصراع الاجتماعى لا يتمثل فقط فى الصراع حول وجود أو عدم وجود القطاع العام، ولا حول دوره الوطنى أو التابع داخل الاقتصاد القومى، وإنما يجرى الصراع الاجتماعى بصور شتى حول القطاع العام من داخله ومن خارجه على السواء، ويجرى مثل هذا الصراع فى الحياة اليومية ويتخذ سبيله فى البر عوجا.