الأحد 22 ديسمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

هيكل.. كلمات ودرر له.. في الذكرى الأولى لرحيله

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
استئذان.. وامتنان:
أرجو أن أستهل بهما، قبل أن أبدأ مقالى اليوم، وأتوجه بكل منهما إلى قراء الجريدة الأعزاء، وإلى إخوتى الزملاء فى الجريدة.. إذ أستأذن فى أن يكون مقالى «بلا ضفاف» اليوم هو المقال الأخير قبل إجازة أتوقف فيها عن الكتابة المنتظمة فى الصحافة لبعض الوقت، حتى أتفرغ لإتمام مشروع كتاب لى.. أما الامتنان، فأيضا وبلا حدود لقارئ مقالاتى الذى حبانى بسعادة الاهتمام والمتابعة لما كتبته هنا بانتظام وفى مجالات متنوعة، كل «أربعاء» على مدى فترة طويلة.. مع الامتنان كذلك، الحقيقى والصادق، للإخوة المسئولين عن تحرير الجريدة وعن تحرير الصفحة، وأشهد بعرفان أنهم احترموا كل كلمة كتبتها أيا كان اتفاقهم أو اختلافهم معها.. وحتى المرة الوحيدة التى أرادوا أن تحذف فيها ولو فقرة واحدة، ليس لسبب سوى أن أحد مقالاتى مؤخرا أكثر قليلا مما تسمح به المساحة، فإنه اتصل بى أخى المسئول عن الصفحة لأختار بنفسى الفقرة التى أرى أنها يمكن أن تحذف من دون أن يخل ذلك بسياق المقال.. والآن إلى مقال اليوم.
على مدار عام كامل، منذ غادر تفاصيل حياة وطننا وأمتنا وعالمنا، محمد حسنين هيكل، إلى عالم آخر هو بإذن الله تعالى أجمل وأكمل وأعدل، قيلت فى «الأستاذ» كلمات محبة كثيرة، وكتابات تقدير وتأمل بلا حصر، لكنى كلما مر وقت، أتأكد أكثر أن أروع وأبدع من كل ما كتب، ومن كل ما قلته وقاله غيرى هو ما قاله وكتبه «محمد حسنين هيكل» نفسه، عند وداع صديقه المفكر المرموق محمد سيد أحمد «وقد سبق أن أشرنا إليه ونشرنا بعضه».
نعم.. لم أجد قط، وأحسب أنى لن أجد، أدق ولا أعمق، أجمل ولا أرهف، من هذه الكلمات الذهبية لمحمد حسنين هيكل.. وقد سمعتها منه بنفسى «فى كبرى قاعات نقابة الصحفيين» فى احتفاء كبير باسم وبإسهامات وبسمات المفكر الراحل، وكان يجلس على المنصة محمد حسنين هيكل، وإلى جواره الكاتب المفكر الموسوعى محمد عودة، وكنت أنظر إليهما على مقربة وأنا أجلس فى أول الصفوف.. وأتأملهما وأقول فى نفسى: كم هما.. «هيكل»، و«عودة»: الكاتبان المتفردان.. المخلصان المتفانيان من أجل الفكر والدور والمشروع العروبى الإنسانى الحضارى الثورى الذى رفع لواءه جمال عبد الناصر.. وكم هما، الكاتبان المفكران والعالمان: الأحب والأقرب إلى عقلى وقلبى ووجدانى.. وكم منحتنى الحياة أحلى وأغلى الهدايا.. بالاقتراب الجميل والمبكر من كليهما، والصداقة الرائعة المستمرة، الفكرية والإنسانية لى معهما على مر عقود. والحق أيضا، أننى أعتبرهما طول الوقت على مقربة منى ومن حياتنا، ومن قضايا ومجريات أمتنا وعالمنا.. وأنهما لم يبرحا قط، وأشعر دوما أنهما يتابعان.. ويبتسمان ويفرحان معنا حينما نحرز وننجز فى قضية، ويحزنان حزنهما النبيل حينما نتعثر، أو نتقاعس فى أمر!.. واعتقادى على الدوام، هو: أنهما «معا».. وأن بطل الأمة العربية والإنسانية: جمال عبد الناصر، «معهما».. فلا يوجد دوما وفى كل وقت: من هو فى قلب حياتنا وعقلها وضميرها.. حاضرا مشعا مرشدا: أكثر من «جمال عبد الناصر». لقد بدأت سطورى اليوم بالقول، عن محمد حسنين هيكل: «منذ غادر تفاصيل حياتنا..»، وكنت أعنى ما قلت، فهو عندى لم يغادر سوى تفاصيل الحياة أو دقائق الواقع فحسب، لكن روحه تظل فى قلب وعقل وروح هذه الحياة وهذا الواقع.. وأعترف أننى حتى الآن، وعلى مدار عام كامل، لم أستطع قط أن أقول، أو أستسيغ أى تعبير لأى أحد يشير إلى «محمد حسنين هيكل» بتعبير: «الراحل».. أو «المرحوم».. أو حتى «الله يرحمه»، عندما تقال فى مقام الراحلين المتوفين.. تماما مثلما حتى الآن، لم أستعمل ولم أقبل على الإطلاق، وعلى مدار عمرى، تعبير: «الزعيم الراحل»، أو «القائد أو الرئيس.. الراحل»، عن «جمال عبد الناصر».. وعلى الرغم من أنه فى «٢٠١٧» تمر على استشهاده «٤٧»، وتمر على ميلاده «نحو مائة سنة»، ففى «الخامس عشر من يناير ٢٠١٨» الذى نحن على مشارفه تكون اكتملت «مئوية ناصر» بالتمام.. وهذا العام ٢٠١٧ وحتى يناير ٢٠١٨ فيما نحب، وفيما يجب هو عام الاحتفاء اللائق الشامل، الراقى المستمر، «بمئوية القائد الخالد».
نعود، ونتأمل، ونتلقى.. الكلمات الذهبية لمحمد حسنين هيكل وبعض «درره» بأسلوب الكتابة البليغ البديع الفريد لديه، عند ارتحال صديقه «محمد سيد أحمد»، والتى مهما بحثنا فى تقديرى لن نجد أبدا أروع وأرقى وأعمق منها، فى حديثنا اليوم فى الذكرى الأولى للرحيل «١٧ فبراير ٢٠١٧» أو فى أى يوم.. عن محمد حسنين هيكل. وقد تصدرت، كمقدمة، كتابا تذكاريا قيما بعنوان «لمحات من حياة غنية» عن دار الشروق ٢٠١٠.. يقول ويكتب «الأستاذ»:
على بالى الآن ثلاثة خواطر:
الأول: إننى لست متحمسا للطريقة التى نتبعها فى الاحتفال بالراحلين من أحبائنا، خصوصا إذا كان هؤلاء الراحلون من المفكرين أو الكتاب، فنحن نكتفى بأن نخلع عليهم من الأوصاف مع ذهابهم ما سكتنا عنه فى حضورهم ولو أنهم سمعوه فى أوانه لكان سندا ودافعا أكثر على الزيادة والعطاء، لكننا على الأقل أحيانا نقتصد فى الحضور ونسرف فى الغياب.
الثانى: إننى واحد من الذين يظنون أن الاحتفال بذهاب إنسان إلى ما وراء الحجاب ينبغى أن يجرى على منوال مختلف، خصوصا فى حالة مفكر أو كاتب، ذلك أن المفكر أو الكاتب لا ينتهى حين يغيب، وإنما يظل حضوره ظاهرا ما دام أن له فكرا يؤثر وذكرا يرد مع حضور فكره.
وظنى فى هذه النقطة قريب من التعبير الشائع بأن المحاربين القدامى لا يموتون، وإنما هم مسافرون فى الغروب، تختفى قسمات وجوههم من أمام نواظرنا، ثم تنسحب بعد ذلك أشكالهم وتتحول مع اتساع المسافات إلى ظلال تتصاعد مع الأفق، وهناك يتركز الظل فى نقطة، ثم تتحول النقطة عند الحافة إلى نجم بعيد!.
الثالث: إننا فى ثقافات الشرق نتعسف حين نتعامل مع الموت، نتصوره نهاية للحياة، بينما هو حسب ظنى طور من أطوارها، فهذه الحياة بدأت قبلنا وهى مستمرة بعدنا من أزل إلى أبد، وقد نصاب بالشجن والحنين حين يغيب عنا عزيز علينا متحسبين أنها النهاية، لكن ذلك إسراف فى التشاؤم لأن الغياب مختلف عن النهاية!.
لعلى أقول إن بعضا من هذه الخواطر تجلى أمامى ذات مرة وكنت فى زيارة لجريدة الـ «ديلى تلجراف» زائرا لرئيس تحريرها السير «ماكس هاستنجر»، ثم وجدت بعد خروجى من مكتبه أن واحدا من محرريه يلاحقنى مسرعا وفى يده نص مطبوع قائلا برقة: هذه نسخة من «النعى» «obituary» الخاص بك والموجود عندنا فى المواد الاحتياطية الجاهزة للنشر فى حينه، فهل تريد أن تراجع وتضيف عليه سابقا أو لاحقا شيئا فاتنا فى قصة حياتك؟ ولأول وهلة بدا لى الطلب مستغربا وربما أكثر، ومع ذلك دعتنى غريزة الصحفى إلى القراءة وفرغت منها وشردت ثوانى أراجع مشاعرى وهى موزعة، ثم أقول لنفسى: ولم لا؟ وأعدت قراءة النص ولم أجد داعيا لأن أضيف شيئا، فالمعلومات صحيحة والتقييم بعدها يخص أصحابه، وعلى أى حال، فقد ظلت الواقعة أياما ملحة على داعية إلى إطالة التفكير.
ولعلى لا أصدم أحدا إذا حسبت أن الموت جزء من الحياة بل هو تجديد لها عبر تدفق إنسانى شاءت له عناية الخالق الأعظم أن يتواصل بمثل تواصل الزمن ذلك أنه بمقدار ما لكل فرد من الناس يوم ميلاد ويوم رحيل فقد نتذكر أن بداية كل يوم فى الزمان شروق، وختام كل يوم فى الزمان غروب، ثم إن الغروب لا ينتهى بالظلام، بل إن ظلام ما بعد الغروب سهر فى انتظار شروق جديد، وكذلك تمضى الحياة غلابة على الموت!.
ثم ليس هناك أبلغ ولا أدق وأرقى، من أن نختم بما ختم به محمد حسنين هيكل «نفسه» حديثه.. قال «الأستاذ»، مختتما:
• «دعونى أؤكد فى النهاية أن دور أى كاتب أصيل وكل مفكر خلاق يظل شعاعا فى المستقبل وليس كفنا فى الظلمات. ثم دعونى مشيرا إلى نجم يلمع بعيدا عند حافة الأفق أقول له معكم:
ـ تحرك حول مدارك فنحن نراك
ـ وتكلم عبر كتابك فنحن نسمعك.