باستمرار كان الهدف من كل نشاط بشرى هو الإنسان نفسه، هو رفع مستوى معيشته بنوعيه المادى والثقافى، وكان النمو الاقتصادى يتمثل دائمًا فى الزيادة على مر الزمن فى إنتاج المنتجات المادية والخدمات الثقافية المتاحة لرقى الإنسان، وبالفعل فلا يمكن أن تتمثل التنمية الاقتصادية سوى فى مؤشر محدد هو ارتفاع الدخل الحقيقى للفرد من سلع وخدمات، ففى كل مجتمع يطرح سؤالان أوليان هما: لماذا ننتج؟ ولمن ننتج؟ والإجابة عن السؤال الأول واحدة فى كل العصور وفى كل البلاد، فإننا ننتج لإشباع حاجات البشر، أما الإجابة عن السؤال الثانى فإنها تتفاوت فى الزمان والمكان، ففى العصر الواحد تتفاوت من بلد إلى بلد وفى البلد الواحد تتفاوت من عصر إلى عصر، وهى تعد مشكلة المشاكل منذ أن بدأت المجتمعات الطبقية وإلى أن تنتهى.
وليس الاقتصاد سوى العلم الذى يبحث فى إنتاج وتوزيع الوسائل المادية اللازمة لإشباع حاجات البشر، والاستهلاك هو إشباع الإنسان لحاجاته، ولذلك يعالج علم الاقتصاد ظاهرة الاستهلاك كنشاط ينحصر فى توزيع السلع على البشر لإشباع حاجاتهم، ولا يعالج عملية الاستهلاك ذاتها التى تدخل فى نطاق علوم أخرى طبيعية واجتماعية.
لذلك تربط الشعوب بين التنمية الاقتصادية والتنمية الاجتماعية وتسعى لتحقيق التوازن بينهما، وفى عالم اليوم عالم الثورة العلمية والتكنولوجية، حيث تعذر إن لم يكن يستحيل تحقيق التراكم البدائى بنهب الشعوب، يتعذر أيضًا تحقيق التراكم فى النظام الرأسمالى بأعمال الاستغلال الفاحش للطبقات العاملة ذلك الاستغلال الذى قامت عليه الرأسمالية تاريخيًا، وحتى عندما جرت تجارب التنمية، واتبعت نمطًا يقيس التنمية بمدى نمو الناتج القومى الإجمالى بوصفه كافيًا لحل مشكلة الفقر والتخلف على أساس أنه يحقق مستويات عالية من الدخول ويكفل العمالة الكاملة أيضًا تبين بعد فترة من الزمن أن بلادًا مثل باكستان وكولومبيا قد ساءت فيها أحوال العمالة على الرغم من تحقيق معدل نمو أكثر من ٩٪، بينما واجهت البرازيل والمكسيك وقد حققتا معدلًا مرتفعًا لنمو مشاكل تفاقم سوء توزيع الدخول، ومن ثم بدا عجز معيار الناتج القومى الإجمالى عن الكشف عن مدى نجاح التنمية أو فشلها بعد أن أسدل ستارًا كثيفًا على تهميش الأغلبية الساحقة من السكان، ولعلنا نتذكر أن مصر قد حققت معدل نمو تراوح بين ٧٪ و٨٪ فى أواخر حكم الرئيس مبارك دون أن تشعر الجماهير المصرية بأى تحسن فى مستوى معيشتها بل ارتفع معدل الفقر ليصل إلى ٤٠٪ عام ٢٠١٠ فى السكان ولذلك فإن معدل النمو من جانب لا يحصى إلا المعاملات الداخلة فى السوق أى قيم المبادلة، بينما يهمل قيم الاستعمال أى إشباع الحاجات، وهو جانب آخر، لا يشير إلى الطريقة التى يتم بها توزيع الناتج بين السكان، فالواقع أن السؤال الثانى الذى يطرح نفسه فى كل مجتمع ما زال هو لمن ننتج؟ وهل نحن ننتتج ليستهلك أفراد المجتمع؟ وإنما تكمن المشكلة فى حقيقة أنه يتم توزيع الناتج فيما بينهم طبقًا لأوضاع أولئك الأفراد فى عملية الإنتاج وطبقًا لأسلوب الملكية السائدة فى المجتمع،
ومع فشل تجارب عديدة للتنمية، تم تنفيذ مفهوم نصيب الفرد من الدخل القومى كمعيار ومؤشر دقيق للنمو الاقتصادى، ولقد أصبح من المسلم به فى السنوات الأخيرة أولوية التنمية لإشباع الحاجات الأساسية للأغلبية الساحقة من السكان، ومن ثم جرى التأكيد على أن إشباع هذه الحاجات الأساسية ليس معناه النزول بحاجات الإنسان إلى حدها الأدنى، وأن معناه الوحيد هو توفير الحد الأدنى المضطرد النمو من الإشباع الكامل لحاجات الإنسان بنوعيها: الحاجات الفردية من غذاء وكساء ومسكن، والحاجات الجماعية مثل الماء النقى للشرب والصرف الصحى والنقل والعلاج والتعليم والبيئة غير الملوثة، ويتوقف كل ذلك على التشكيلة التى ينتجها المجتمع من السلع والخدمات من حيث الكم والكيف، بيد أنه إلى جانب الحاجات الأساسية السابقة مجموعة من الاحتياجات غير المادية التى لا ينتظم الناس فى أطر رسمية ليشبعوها، كالحاجة للثقافة بأوسع معانيها وإمكان الحصول على المعرفة وتذوق الفنون، وكذلك الحاجة إلى الإعلام بمعنى حق الإنسان فى معرفة ما يجرى من حوله، فى بلده وفى العالم، فنقل تلك المعلومات بالقدر المعقول من الأمانة والموضوعية وسيلة لاستكمال المعرفة، ويدخل فى ذلك حق المواطن فى ممارسة ما يؤمن به من قيم دينية وروحية، وأخيرًا يعد احترام حقوق الإنسان فى رأس الاحتياجات الأساسية، «فالإنسان ليس بهيمة تفيد فى الإنتاج، نوفر لها الغذاء والمأوى والرعاية الصحية ليحصل صاحبها على إنتاج أفضل.
وهنا ينبغى أن يكون واضحًا أن مفهوم الحاجات الأساسية يختلف عن مفهوم حاجات الكفاف، فهذا الأخير يكاد أن يكون مفهومًا بيولوجيًا خالصًا لا يتجاوز المحافظة على حياة الإنسان بتوفير القدر الأدنى من السلع والخدمات اللازمة للبقاء، أما مفهوم الحاجات الأساسية، فالمفروض فيه أن يكون مفهومًا متحركًا يتطور مع تطور المجتمع وبحيث يزيد مع الزمن القدر اللازم للإنسان من السلع والخدمات، سواء من حيث الكم أو الكيف،
وينبغى الاعتراف بأن التوصل إلى مفهوم الحاجات الأساسية للسكان ما زال بحاجة إلى المزيد من التحديد، لقد نجح هذا المفهوم فى أن يكون تعبيرًا عن حاجات حقيقية محددة، يمكن وضعها فى صيغة كمية، كما يمكن تحقيقها بالنسبة لكل فرد من أفراد السكان على الأقل فى حدها الأدنى، ومع ذلك يظل ذلك المفهوم بحاجة إلى المزيد من الصقل الذى لن يتاح إلا فى ضوء دراسات ميدانية جادة، وحتى الآن، فإن القيمة الجوهرية لهذا المفهوم هى أنه قد حرر الفكر الاقتصادى من مفهومين مضللين، أما الأول فهو مفهوم نصيب الفرد من الدخل أو الدخل المتوسط على أساس الناتج القومى الإجمالى، فهو مفهوم يخفى عدم المساواة بين السكان، وأما المفهوم الثانى فهو الحد الأدنى للدخل، وكان مفهومًا يتوقف على أسلوب الاستهلاك، ومن ثم تلقى الفكر الاقتصادى دفعة قوية فى اتجاه التوصل إلى تنمية تلبى الحاجات الحقيقية للسكان أولًا وقبل كل شىء، وترتبط بالتالى بالجذور العميقة للشعوب التى تخدمها.
ويعترض بعض الاقتصاديين على مفهوم الحاجات الأساسية ويضعون محله مفهوم الحاجات الاجتماعية للسكان باعتبار أن مفهوم الحاجات الأساسية إنما يعنى الحد من الفقر لا إزالته، وطبقًا له فإن هذا المفهوم الذى يركز على الزيادة المباشرة فى الاستهلاك وعلى الأخص استهلاك الفئات الفقيرة من السكان عن طريق إعادة توزيع الدخول والثروات وعن طريق خلق العمالة وعن طريق تنظيم الإنتاج لم يعد يضمن لا ضرورة التغيير الهيكلى للمجتمع ولا حتى التفكير فى ضمان معدل معقول للنمو فى الزمن الطويل، متجاهلين بذلك أن القضية فى جوهرها هى قضية تطوير المجتمع، وعلى العكس، فإن مفهوم الحاجات الاجتماعية التى يمكن إشباعها عن طريق استخدام الموارد المتاحة استخداما رشيدًا لا بد أن يعنى ضرورة إدخال التحويلات الهيكلية التى تضمن أن يتوجه الإنتاج نحو الدخل، نحو إشباع الحاجات الاجتماعية للغالبية العظمى من السكان، وبهذا التحفظ الوارد فى منطق التنمية سواء كانت اقتصادية أو اجتماعية ينبغى أن تبدأ استراتيجية التنمية بتحديد نمط استهلاك المجتمع وبخاصة نمط استهلاك الغالبية الساحقة من السكان.
وكان ماكنمارا رئيس البنك الدولى الأسبق هو أول من طرح مفهوم الحاجات الأساسية فى خطاب عام ١٩٧٣ فى مجلس محافظى البنك، وقد صاغه عندئذ على النحو التالى: «إن مهمة حكومات البلدان النامية هى إعادة توجيه سياسات التنمية من أجل الهجوم المباشر على فقر السكان الأكثر حرمانًا أولئك الذين يمثلون أربعين فى المائة من السكان فيجب عليها أن تكون مستعدة لمنح أولوية أكبر لوضع أهداف للنمو فى صيغة حاجات بشرية جوهرية فى صيغة تغذية وإسكان وصحة ومحو أمية وعمالة حتى لو كان ذلك على حساب تخفيض سرعة التقدم فى بعض قطاعات التصنيع البالغة التميز التى تذهب منافعها للقلة.