لا تنفصل قضية التنمية عن الحرية، لتحقيق التنمية الاقتصادية يجب أن يكون المجتمع حر والفرد حر، والحرية التي ننشدها هنا هي الحرية من الجهل والمرض والفقر، فوجود إنسان متحرر من الثالوث السابق هو وحدة القادر على تحقيق التنمية الاقتصادية، وربما نتعجب حين نرى بعض الساسة والاقتصاديين يختذلون قضية التطوير الحضاري في عبارة واحدة وهي "التنمية الاقتصادية" وفي مظهر واحد هو الدخل وإجمالي الناتج المحلي (أو القومي) دون النظر للجوانب النوعية الأخرى للحياة وأهمها الحرية بمعناها الواسع أو أدوات وقدرات الإنسان الحر في فرص اختيار وصنع الحياة.
في مقالنا السابق ذكرنا أن آدم سميث قد حدد مهمة الحكومة في النشاط الاقتصادي بتوفير المناخ الذي يجعل من يعمل، يعمل ومن يريد أن يمر، يمر وهو ما يمكن أن نشير إلية بتوافر مقومات عمل الاقتصاد الحر، لكنه أشار أيضًا إلى أن حرية التبادل والمعاملات هي جزء مكمل ومقوم للحريات الأساسية.
ليس هذا معناه التقليل من شأن الحريات السياسية، فوجود مجتمع ديمقراطي ضمانة لعدم السقوط في أزمات اقتصادية، ولكن مطالبة المجتمع بتوفير بنية تعليمية وصحية والنظر إليهم باعتبارهم حق كالهواء، سابق في قناعاتي عن المطالبة بالاستحقاقات السياسية، ولنا في الصين التي واجهت فيما بين عامي 1958 -1961 ما يعتبر يقينا أكبر مجاعة سجلها التاريخ (حيث توفى قرابة ثلاثين مليون نسمة خلال المجاعة التي أعقبت فشل خطة "قفزة كبرى إلى الأمام" ولكنها بدأت منذ العام 1979 التحرك في اتجاه اقتصاد أكثر انفتاحا ونشط دوليا وموجه نحو السوق، وتمثلت أهم العوامل التي أدت لنجاح تجربة الصين رغم أنها قبل الإصلاح كانت متشككة إزاء قدرة الأسواق على تحقيق التقدم الاقتصادي إلا أنها لم تكن لتشك أبدا في قيمة التعليم الأساسي والرعاية الصحية واسعة النطاق، لذا فعندما شرعت الصين في التحول إلى اقتصاد السوق، كان لديها بالفعل شعب على مستوى عال من التعليم، خاصة بين الشباب ولديها منشآت مدرسية على نطاق البلاد جميعا، مما جعل لها دورا كبيرا في امتلاك الفرص الاقتصادية التي أتاحتها لها منظومة الأسواق الحرة.
التجربة الصينية تجربة غنية في محتوياتها وعميقة في دلالاتها فكيف تحققت المعجزة على يد الصينين؟ لتصبح الآن ثاني أقوى اقتصاد بعد الولايات المتحدة الأمريكية، وسنعود لها حتما في مقالات تالية.
***
اقتباس
"كل مدفع يُصنع، وكل بارجة تنزل إلى الماء، وكل صاروخ يُطلق، يعني في النهاية، سرقة ممن يعانون الجوع ولا يُطعمون"
الرئيس الأمريكي
دونت د. إيزنهاور