طهقت من الكتابة واخترت لكم «واحد طهقان»، الكاتب الجميل هشام مختار آخر يناير يقول:
الناس فى الدنيا طهقت من الاستكراد.. الديمقراطية اختطفت وصارت بلوتونومية يتحكم من خلالها المال فى القرار السياسى ليصب فى صالحه على حساب الشعوب المخدوعة.. الرأسمالية التى تحولت إلى ليبرالية جديدة تستعبد الناس من خلال تكبيلهم بالديون لتزيدهم فقرا بينما تتراكم مزيد من الثروات لدى الأثرياء..
ثورة مصر لاعتبارات التاريخ والجغرافيا خرجت ضد كل ذلك رغم أنه طبق فى بلدان كثيرة بنجاح من خلال العولمة.. وقد أشعلت ثورة مصر الاحتجاجات فى ألف مدينة عالمية من خلال حركة «احتل» occupy التى خرجت رافعة شعار ١٪ فى إشارة إلى استئثار هؤلاء وحدهم بأكثر من نصف الثروة فى العالم مقابل إفقار كل من سواهم..
حركة «احتل» العالمية لم تستمر طويلا بسبب غيبة المرجعية الفكرية لبديل ما خرجت لرفضه، رغم قناعة الناس بمبادئها وتعاطفهم معها.. وفى غيبة توافر البديل، ضجت الشعوب المحبطة من الظلم فقررت تغيير الأشخاص لعلهم يغيرون الأوضاع الظالمة.. وكان الاختيار المنطقى أن يأتى هؤلاء من خارج المؤسسات التقليدية للحكم أو من اليمين المتطرف الذى اكتسب شعبية لمعارضته مكيدة العولمة.. ففى هذا الإطار أتى ترامب وغالبا ما ستأتى الانتخابات الفرنسية بمارى لوبان اليمينية المتطرفة أو على الأقل فولون اليمينى .. الشعبوية صارت بمثابة البديل المنطقى لاختيارات الشعوب التى ضجت من شخوص مؤسسات ومنظومات الحكم التقليدية.. واختيار الشعب الأمريكى لدونالد ترامب رئيسا هو بمثابة ثورة ديمقراطية على السائد رغبة فى التغيير ولو كان محفوفا بالمخاطر.. ربما ليس ترامب الشخص الأمثل، إنما وجوده سوف يحرك المياه الراكدة التى لم تنجح حركة «احتل» فى تحريكها..
التغيير فى حد ذاته لا بد أن يكون مزعجا ومضطربا، فتلك ثورة رغم كل شيء.. وإذا لم تتفهم مؤسسات الحكم التقليدية فى العالم فإن عليها أن تنحنى لإرادة شعوبها، فالشعبوية سوف تتصاعد وتيرتها حول العالم لتفرض إرادتها على الجميع.. شاء من شاء وأبى من أبى.. بكل ما سوف تحمله من سلبيات وصدمات ومفاجآت.. ومن السذاجة تسطيح الأمور فى وجود ترامب الذى أتت به إرادة الناخب الأمريكى رغم أنف مؤسسات الحكم وإعلامها الذى فعل كل ما بوسعه لإسقاطه فلم ينجح.. وإذا كان البعض فى أمريكا ما زال يسعى لإسقاط ترامب بعدما صار واقعا، فتلك سذاجة متناهية لأنه يتعامل مع مظهر المشكلة ويتناسى جوهرها.. فسوف تأتى الشعوب بسياسى شعبوى آخر ليحقق آمالها فى التغيير..
من كانوا يلومون المصريين على الإطاحة بمرسى الذى أتت به صناديق الانتخابات، صاروا اليوم يحاولون عمل ما يشبه حركة «تمرد» المصرية، إنما بوسائل تبدو أكثر ديمقراطية.. والمؤسسات التقليدية للحكم تعاديه فى السر والعلانية وتحاول تعويقه كما فعلت «الدولة العميقة» فى مصر.. نفس ما حدث فى مصر إنما بمفردات مختلفة.. وإن نجح كل هؤلاء فى إسقاط ترامب قبل انتهاء مدته الرئاسية فسوف تكون نقطة فارقة فى التاريخ وإعلانا رسميا بسقوط الديمقراطية وفق المفاهيم التى سادت الدنيا خلال العقود الماضية.. وتحديدا منذ تنصيب رونالد ريجان رئيسا لأمريكا وممثلا لأصحاب المصالح وأساطين المال والاقتصاد.. وإن حدث ذلك قبل صياغة البشرية للبديل، فسوف يدخل العالم فى فوضى من الاضطرابات التى لا يعلم سوى الله مداها..
ما بدأت بوادره تتضح من تربص فى الداخل الأمريكى بترامب وقراراته - مع تسليمنا بجنوحها - سوف يدخل أمريكا فى حالة من التخبط وعدم الاستقرار.. وما يحدث فى أوروبا الغربية من معاداة علانية لترامب سوف يهدد بتفكك الاتحاد الأوروبى وحلف النيتو.. كما فعلت بريطانيا البراجماتية التى انسحبت من الاتحاد الأوروبى لتشغل المواقع الدولية التى تنسحب منها أمريكا حول العالم لاسيما فى الشرق الأوسط ..
كل ذلك يعنى أن الدنيا بأسرها سوف تدخل فى مرحلة من التخبط وعدم الاستقرار حتى يتضح المسار الجديد الذى يقودها لعالم أكثر عدالة ورحمة.. فنحن فى مرحلة انتقالية ما بين عالمين متباينين، واقع سقط شعبيا وأخلاقيا وبديل ما زال غير متضح المعالم لأن مرجعيته الفكرية لم تتشكل بعد وإن كانت أهدافه واضحة.. تلك المرحلة الانتقالية هى أرضية خصبة للاضطرابات على النحو الذى عاشته مصر خلال السنوات القليلة الماضية وما زالت ..
من السذاجة تصور أن العالم يمكن أن يفلت من المظاهر السلبية لتلك المرحلة وما تحمله من بذور للشقاق محليا ودوليا.. فسوف تنشط وسائل التواصل الاجتماعى للحشد وترويج الشائعات وسوف ينشط الإعلام البديل بمثالبه ليجد لنفسه موطئ قدم ولو بالتدليس.. ولعلها سوف تكون فرصة تسمح بالصعود السياسى للأفاقين والأدعياء.. ففى تلك المراحل الانتقالية هناك من يسقط وهناك من يصعد، على مستوى الشعوب كما على مستوى الأفراد.. إنما لا يجب تجاهل أن الأسوأ عادة ما يكون أكثر قدرة من الأفضل على استغلال تلك المنعطفات التاريخية..
إسقاط ترامب ليس هو الحل أبدا، بل هو دفع فى طريق ضبابى أكثر وعورة وأشد خطرا، ليس على أمريكا وحدها، بل على العالم بأسره.. وإذا كانت ثورة مصر قد ضلت طريقها لأنها لم تقدم البديل وتفرضه فاختطفت، لتعود من جديد إلى حظيرة الدولة العميقة، فمن السذاجة تصور أن تجربة أمريكا سوف تكون مختلفة.. بل سوف تسحب من جديد لأحضان مؤسسة الحكم التقليدية لتدخل فى حلقة جديدة من الاضطرابات لأن الشعب الذى انتخب ترامب نكاية فيها لن يرضى ولن يسكت ما دامت الأحوال لم تتغير..
إذا لم تتشكل القاعدة الفكرية للتغيير، فالشعبوية سوف تستمر وتتصاعد ليس فى أمريكا وحدها بل فى كل الدنيا.. وإذا كانت مصر قد أشعلت فتيل التمرد على البلوتونومية والليبرالية الجديدة، فهى المرشحة الأجدر بتقديم التجربة الرائدة لنظم حكم أكثر عدالة وقوامة.. إنما للأسف الظروف الاقتصادية تتخذ ذريعة لإبقاء الأحوال على ما هى عليه بأقل حد من التغيير.. وإذا كان البعض يتصورها مرحلة انتقالية فهو واهم لأننا تجرعنا من ذات الكأس مرارا ولعقود طويلة دون أن نتمكن الإفلات من فلكها.. وما ذكرته من خطورة تجاهل الرغبة الشعبية فى التغيير وإعادة إنتاج ما كان قائما بشخوص مختلفة، سوف يدخلنا فى حلقة مفرغة من عدم الاستقرار بعدما ينفد صبر الناس انتظارا لتحسن أحوال لن تتغير ما دمنا لم نغير من التربة التى ترعرعت فيها..
لقد اجتهدت فى كتابى «حرب وثلاث معارك» (جزءين منفصلين) الذى صدر مؤخرا عن دار «مصر اليوم» لأقدم القاعدة الفكرية للبديل المنشود.. وقد انتهى الجزء الثانى باقتراح محدد ومتكامل لإعادة صياغة منظومات الحكم فى العالم لتلافى سلبيات البلوتونومية وتحييد تأثير المال على القرار السياسى.. وهو ما يتيح قيام نظم حكم أكثر عدالة وحيادية من خلال ضبط الخلل القائم على أرضية وجود مركز القرار فى حوزة من يمكن أن يوجهه لصالحه أو لصالح من دعموا وصوله لموقعه..
لا أريد الخوض طويلا فيما أوردت تفاصيله فى الكتاب بجزءيه.. فما تلك سوى لمحات مما يتعلق بحرب مصر فى «معركة الدنيا»، بالإضافة إلى معركتيها الأخريين.. «معركة الدين» لاستعادته من ضلال التراث الذى صاغته مصالح السياسة منذ الفتنة الكبرى.. و«معركة الوطن» لإنهاضه من كبوة طالت فأخرته بأكثر مما ينبغى عن النهضة واحتلال المكانة التى يستحقها بين الأمم.. ثلاث معارك تخوضها مصر متلازمة على ثلاث جبهات متباينة، إن حالفها النصر سوف تعيد مصر إلى الريادة التى غابت عنها لقرون طويلة..