ربما قدم «الفلاسفة» تفسيرات مختلفة للعالم والحياة البشرية، فيما قامت «الثورات» بما هو أهم من ذلك بكثير، وهو: إحداث «تغيير» فى كل العالم.
ربما هذا ما جعله على يقين أنه لم يخلق ليشبه الملايين من حوله، بل جاء إلى هذا العالم فى بعثة مقدسة، من أجل مهمة خطيرة، عليه اكتشافها، واتباع خطواتها.
تمرد على كل القوالب الموسيقية التى وضعها عظماء عصره من الفنانين، ورغم أنه اعتاد حياة «ڤيينا» الأرستقراطية فى البداية، لكنه كرهها فى النهاية؛ لأنه صاحب عزة وكرامة، فلم يركع أمام قيصر أو ملك، ولم يتنازل أبدًا عن حقه.
كانت حياته وأعماله ثورة عارمة على كل أشكال الذل والقهر والعبودية؛ لذا تنقل من غرفة إلى أخرى، بحثًا عن الراحة والحرية؛ لتأدية تمارينه الموسيقية ليلًا ونهارًا.
انحاز دومًا إلى جانب الضعفاء والمحتاجين، وأحب الكثير من النساء، دون تفريق أو تمييز، حتى المعوقات، وخلق النكتة، وضحك من القلب، وجامل الصغير، واحترم الكبير، وأكرم النادل، وداعب السُفْرَجية، وأفرط فى مساندة أصحابه، وتكلم اللغة الشعبية الألمانية.
ألف السيمفونية الثالثة إعجابًا بنابليون بونابرت، وحينما عَلِم أنه نَصَّب نفسه إمبراطورًا، قال: إذن هو واحد من الناس، جاء ليدوس بقدمه على «حقوق الإنسان»، ثم حاول تمزيق النوتة، إلا أن بعض أصدقائه تدخل لإنقاذ هذا العمل الجبار.
أجهد ذائقته، وبذل المستحيل فى حمل شتات أفكاره؛ ليترجم «أنشودة الفرح»، وهى أجمل قصيدة لشاعر ألمانيا الكبير «فريدريش شيلر»، متوصلًا إلى خَلْق مبهر، ثم تمكن من إدارة العزف بنفسه يوم الافتتاح، رغم أنه لم يسمع شيئًا، بل تابع المقاطع الموسيقية فى داخل نفسه، وراقب الحركات بدقة وإمعان، حتى اضطرت إحدى المغنيات فى ختام العرض أن تمسك بكتفه؛ لتريه تصفيق وحماس الجمهور الغفير.
ما زالت تحفته النادرة أو ترتيلة «الحب والتسامح والفرح» إلى كل البشر، هى أروع «سيمفونية» له، تدوى فى كل سماء أوروبا، كنشيد وطنى، لأمة تحترم نفسها، وتقدس علماءها، ومفكريها، وأدباءها، وكتابها، وشعراءها، ونقادها، وفنانيها، وموسيقيِّيها.
إنه موسيقار ألمانيا الخارق «بيتهوڤن»، الذى خلدت كل أعماله الموسيقية الأفكار التحررية لكل الثورات الإنسانية، ورغم أن عائلته خدمت الإقطاعيين، إلا أنه كان آخر من ارتدى لباس الخدم من الموسيقيين.
شهدت مدينة «بون» ميلاده ونشأته البائسة فى ١٦ ديسمبر ١٧٧٠، التى قاسى فيها الضرب الموجع والطباع الشرسة من أبيه عازف الكمان والسكير والمسرف، الذى علمه العزف على البيانو والكمان منذ الرابعة من عمره، ثم توفيت والدته بعد صراع طويل مع المرض، وهو عمره ١٧ عامًا، تاركة له مسئولية العائلة كاملة.
اقتحمت مؤلفاته الموسيقية بالغة الروعة أفخم الصالونات والمسارح العالمية، وتألقت بلاغة ألحانها فى أشكال ثورية فلسفية مبتكرة، عميقة فى التعبير، قوية فى الفكر، لتعتبر أعظم ما أنتجته اليد البشرية حتى وقتنا هذا. يحتل «القُدَّاس» الصدارة بين أعماله، وقد أضاءت فكرته أثناء استحمامه عام ١٨٢٠، حينما ضرب بيديه ورجليه، مستخرجًا إيقاعًا للطبول، فهرع إلى البيانو، مجربًا الصوت الذى انطبع فى ذهنه، ثم كتب على النوتة: «بيتهوڤن» الكاثوليكى منذ صغره، الذى كانت عاطفته للموسيقى الكنائسية أقوى من غريزته، عاطفة نحو الله والطبيعة.
عاش محنة معقدة، حينما فقد سمعه فى الثلاثينيات من عمره، ليتجنب الناس، ويلجأ إلى الطبيعة، يدون فيها أنغامه، وهى أشد أنواع العزلة، التى وهبته فهمًا وفكرًا ومعني أعمق، فصنعت ألحانه المدهشة، وأكثرها خلودًا. احتفظ بمكتبة حافلة، تجمع كل صنوف الفن والأدب والفلسفة منها؛ مؤلفات جوته، أفلاطون، شكسبير، وكان صاحب قضية إنسانية، ورسالة فنية، امتزجت مع حياته المرتبكة، وأحاسيسه المُتَأجِّجة، فوجدت بين أوراقه المبعثرة مؤلفات موسيقية غاية فى النبل والصدق والعذوبة.
أصْغى لعزف الصبى الموهوب «فرانز ليست»، وهو بعمر ١١ سنة، ثم قَبَّلهُ علي جَبينه، وقال: «اذهب، أنت أسعد مخلوق، سوف تمتع الآخرين، فلم يُخْلَق أجمل من هذا الفن»، وحينما دخل الفنان «روسينى» غرفته، قال له: «هذا أنت يا «روسينى» خالق «حلاق إشبيلية»، أهنئك من صميم قلبى، إنها أعظم أوبرا، فقد غمرتنى ابتهاجًا لا حدود له، فرد: مايسترو، حقًا إنك العبقرى بيتهوڤن». من أشهر عباراته: «علموا أبناءكم الفضيلة، فهى وحدها تستطيع أن تسعد المرء، وليس المال، أتحدث عن تجربة شخصية، فالفضيلة هى التى ساندتنى فى بؤسى وفقرى، إنى مدين لها بعدم وضع حد لحياتى بالانتحار»، «يا لشدة ألمى، عندما يَسْمَع أحد بجانبى صوت «ناى»، لا أستطيع أنا سماعه، أو يَسْمَع آخر غناء أحد الرعاة، بينما أنا لا أسمع شيئًا، كل هذا كاد يدفعنى إلى اليأس، وكدت أضع حدًا لحياتى اليائسة، إلا أن «الفن» وحده هو الذى منعنى»، «أيها الخالق العظيم فى هذا الكون، أنا مبتهج فى ملكوتك، فكل شجرة تنطق باسمك، يا إلهى ما كل هذه العظمة ؟!».
كانت آخر كلماته: «صفقوا أيها الإخوان، «الكوميديا» قد انتهت»، قبل أن تتشح مدينة «ڤيينا» بالسواد ألمًا وحزنًا على وفاة هذا الثائر العبقرى، الموسيقار الألمانى الأصم «بيتهوڤن»، عن عمر يناهز السابعة والخمسين فى صباح مشرق ٢٦ مارس عام ١٨٢٧ أثناء عاصفة ثلجية، وكأن الطبيعة أرادت أن تودعه وداعًا أخيرًا، وهى تعزف موسيقاه العاصفة الحزينة.