أقف طويلًا أمام حوادث التاريخ العربى، بعضها يأخذنى بعيدًا حتى لكأنى أتخيل أن تلك الحوادث قد وقعت فى عصرنا الحالى ، بوجود وسائل الإعلام والقنوات العديدة ومواقع التواصل الاجتماعى، ربما كان الخبر ومعالجته وخروجه إلى الناس وفق رؤية تلك الوسائل كان سيحدث حالة من الإرباك فى فهم الناس.
شيطان القلم، وهو ذات الشيطان الذى يكمن فى التفاصيل، فالقلم والشيطان صنوان لا يختلفان فى بعض المجتمعات فى شيء أشبه بصنع عالم من الغواية بين حالة الكتابة وعالم نريده نحن كما نريده.
فى الإعلام يصنع الخبر كما يريد كاتبه وكما يريده شيطان قلم كاتبه، ونحن نعيش ذكرى ما يسمى بـ «الربيع العربى» وكيف استطاعت وسائل الإعلام العربية والغربية على حد سواء أن تصنع من احتجاجات ومطالب جماهيرية مشروعة وربما تكون ذات أهمية قصوى للناس، إلي احتجاجات وصلت إلى حد التحريض على بنية الدولة ذاتها، وكيف استخدمت الميديا بحسب عقول محركيها وصناعها ممن لهم باع فى التمحيص والتدبير وصناعة المكر عبر وسائل التلفزة والأثير والنت وأخواتها جميعا.
فى رمضان وقعت حادثة جرح الخليفة الرابع على بن أبى طالب كرم الله وجهه على يد ابن ملجم، والقصة طويلة بعضها يضعها فى سياق أن ابن ملجم وهو أحد معارضى سياسة أمير المؤمنين على «رضى الله عنه» وأنه مجرد أداة نفذت الجريمة، ولست هنا فى سياق البحث عن أصل المشكلة بقدر ما أفكر كيف ستتناول وسائل الإعلام الحالية لو أنها كانت موجودة فى زمن الخليفة على، نقل خبر جرحه واستشهاده على يد قاتله بالشكل التالي:
قناة (الجزيرة) .... المجاهد ابن ملجم يتمكن من الهجوم وضرب رئيس الرافضة الشيعية على بن أبى طالب، ولا معلومات حتى الآن عن حالة الخليفة وعن مدى خطورة الإصابة.
قناة (الشرقية وهى قناة عراقية ).. ميليشيات الكوفة وقائدها على بن أبى طالب تعتدى بالضرب على ابن ملجم ودعوات بضرورة تدخل أممى قريشى أموى لاكتشاف حالات التعذيب والتجاوز بحق الرافضين لسياسة على بن أبى طالب ودعوة لمنظمات حقوق الإنسان.
قناة «الحرة».. ابن ملجم بريء وكانت لديه مطالب مشروعة ولكن علي لم ينفذها وأن علي اغتصب حق ابن ملجم بالتعبير عن رأيه بضربه على رأسه، وهذه الضربة حق يكفله الدستور فى التعبير عن الرأى.
قناة «العربية» و«العربية الحدث».. ما يحصل فى الكوفة هو نتيجة الإهمال والإقصاء الذى اتبعه على بن أبى طالب بحق معارضيه.. وندعو لتدويل القضية عربيًا، وتدخل الأزهر لحل الأزمة ودعوة إلى العفو عن ابن ملجم ورفاقه.
قناة «إم بي سي مصر».. على بن أبى طالب يتعرض لهجوم بالأسلحة البيضاء، وما زالت المعلومات غير متوفرة عن أسباب الهجوم والجهات المسئولة عنه.. نعود الآن لتكملة أحداث المسلسل الهندى.
الأمم المتحدة تدعو إلى ضبط النفس ورفض الدعوات لإعدام ابن ملجم لما له من تداعيات خطيرة على السلم والأمن الدوليين.
هيومان رايتس ووتش: إننا نحمل السلطات الشرطية التابعة لديوان الخليفة على بن أبى طالب، مسئولية سلامة ابن ملجم، ونطالب بتمكين لجنة تابعة للمنظمة بزيارته فى محبسه بالكوفة.
تركيا تحذر من مغبة إعدام ابن ملجم وتدعو قادة حلف الناتو لاجتماع طارئ.
الاتحاد الأوروبى يدعو إلى التعقل، وعدم التسرع فى إعدام ابن ملجم ويدعو إلى معرفة الأسباب التى دفعت إلى هذا العمل ومعالجتها.
أمريكا تطرح منح اللجوء السياسى إلى ابن ملجم، وتقول إن إعدام ابن ملجم سيؤدى إلى جر المنطقة العربية لكثير من القتال الطائفى، والرئيس يكلف حاملة الطائرات أيزنهاور بالتحرك نحو الخليج؟
روسيا تطرح مبادرة جنيف ٣٥ لحل القضية، وتدعو أطراف المعارضة إلى حوار فى موسكو .
إيران.. مرشد الثورة الإيرانية يدعو إلى النفير العام، ويقول إن طريقنا لتحرير القدس سيمر عبر الكوفة.
مفتى الديار الإسلامية يقول: إن ابن ملجم كان رجلًا مؤمنًا بالله ولا تأخذه فى الله لومة لائم، وإنه لا يعد فى عداد الخارجين عن الملة، ويجب أن نحافظ على شرعية الإمام علي.
فيس بوك، آلاف الصفحات التى تحمل اللقطات الأولى لهجوم ابن ملجم على الإمام على أثناء صلاة الفجر.
تويتر.. هاشتاج، كلنا على بن طالب، يتصدر، ثم فى المركز الثاني.. هاشتاج كلنا ابن ملجم، وإدارة تويتر تحذر المستخدمين من استخدام كلمات تحتوى على العنف أو الإشارة إلي طائفة أو عرق أو مذهب.
سيضحك البعض والبعض الآخر لن يهتم والبعض الثالث سيعتبرها كتابة رجل أتعبه الوقوف طويلًا فى بلاط صاحبة الجلالة، مراقبًا حالة الانحدار الإعلامى والصحفى الذى عشناه منذ سنوات أو مع بداية ما سمى بالربيع العربى، لكن هذه هى الحقيقة المرة عندما يلعب الشيطان بوسائل الإعلام فى أى مكان وزمان.