الثلاثاء 07 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الخِلافَة.. "الوهم الضائع" من الملك فؤاد إلى أردوغان

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
بدأت حركات الإسلام السياسى بمفهومها الحديث فى أعقاب انهيار الإمبراطورية العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى وقيام مصطفى كمال أتاتورك بتأسيس جمهورية تركيا على النمط اﻷوروبى وإلغائه لمفهوم الخلافة الإسلامية فى الثالث من مارس ١٩٢٤، وتعطيل العمل بالشريعة الإسلامية، وقيامه أيضًا بحملة تصفية ضد كثير من الرموز الدينية، ويرى رفعت السعيد أن قيام أتاتورك بإنهاء الخلافة ترك بصمات بالغة الأهمية فى مصر، وعلى مفكريها وسياسييها، فبعد أربعة أيام فقط من قرار أتاتورك بإلغاء الخلافة اجتمع بعض علماء الأزهر وأصدروا بيانًا أعلنوا فيه بطلان ما قام به الكماليون - نسبة إلى كمال أتاتورك - لأن الخليفة قد بويع من المسلمين ولا يمكن خلعه.
لكن موقع الخليفة الشاغر أسال لُعَابَ كثيرٍ من الحكام المسلمين، كل منهم ينشد المنصب لنفسه، ومن أمثلة هؤلاء الحكام الملك أمان الله ملك الأفغان، والملك حسين بن على ملك الحجاز، وكان هنا أيضًا الملك فؤاد الأول ملك مصر الذى تحصن بالثقل الحضارى والثقافى لمصر وبأزهرها الشريف وسارع بالمطالبة بالخلافة، وهنا تغير موقف بعض شيوخ الأزهر فنسوا بيعة الخليفة المخلوع واهتموا بطموحات الملك فؤاد، وقرروا دعوة ممثلى جميع الأمم الإسلامية إلى مؤتمر يُعقد فى القاهرة برئاسة شيخ الأزهر، للبحث فيمن يجب أن تُسند إليه الخلافة، وحددوا شهر شعبان من العام التالى لانعقاده، ودارت عجلة الإعداد لهذا المؤتمر مستمدة حماسها من حماس الملك فؤاد وشغفه بأن يكون خليفةً للمسلمين.
وفى ربيع أول ١٣٤٣ - أكتوبر ١٩٢٤ صدرت نشرة سُميت «المؤتمر»، وأعلن أصحابها أن الهدف منها الدعوة لحضور المؤتمر وإنجاحه وتحديد أهدافه، وفى صدر العدد الأول من هذه النشرة نُشر مقالٌ للشيخ رشيد رضا يؤكد ضرورة عقد المؤتمر لأنه «أول مؤتمر إسلامى عام يشترك فيه علماء الدين والدنيا من كل الأمم الإسلامية، خاصةً أن مهمته وضع قواعد للحكومة الإسلامية المدنية التى يظهر فيها عُلو التشريع الإسلامى واختيار خليفة وإمام للمسلمين»، لكن قوى عديدة تكاتفت لإفشال هذا المؤتمر، فالملوك تنافسوا على موقع الخليفة، والدول التى كنت تحكمها الخلافة تسارعت إلى إعلان قيام كِيانات وطنية، والقوى الاستعمارية سيطرت على عديدٍ منها، وكان هناك فى مصر رئيس وزراء شديد العداء للفكرة هو سعد زغلول، أما حلفاء الملك فؤاد فى حزب الأحرار الدستوريين فقد كانوا بسبب موقفهم الليبرالى خصومًا للفكرة، وكتبت جريدتهم (السياسة) «أن الدستور ينص على أنه لا يجوز لملك أن يتولى مع مُلك مصر أمورَ دولةٍ أخرى بغيرِ رضا البرلمان، ومن ثم يتعين ترك بحث هذه المسألة للسياسيين، وأن يَعْدِلَ علماءُ الأزهر عن دعوتهم لهذا المؤتمر».
وفى صحيفة «السياسة» لسان حال حزب «الأحرار الدستوريين» كتب الشيخ على عبدالرازق الذى كان ينتمى للحزب نفسه مقالاً كشف فيه كل أوراق اللعبة، مؤكدًا «أن الحماس للخلافة ليس حماسًا للإسلام، وإنما مساندة لمطامع الملك فؤاد»، كذلك شنت الصحفُ الوفدية حملاتٍ ضارية على المؤتمر وعلى فكرة الخلافة ذاتها، وكان انعقاد المؤتمر فى ١٣ مايو ١٩٢٦ إشهارًا لوفاته. 
ولم تزل حتى عصرنا الحديث تستخدم فكرة الخلافة، برغم إصرار كبار الفقهاء على رفض الفكرة وعلى رأسهم فى العصر الحديث الإمام محمد عبده الذى قال «إن الإيمان بالله يرفع الخضوع والاستعباد للرؤساء الذين استذلوا البشر بالسلطة الدينية، وهى دعوى القداسة والوساطة عند الله، دعوى التشريع والقول على الله بدون إذن الله، فالمؤمن لا يرضى أن يكون عبدًا لبشرٍ مثله»، ومع ذلك وحتى بعد أن اختفت دولة الخلافة العثمانية ظل موضوع الخلافة محل جدل، بل وحاول البعض إقامتها تبعًا لذات الفكرة التى أوحت لحاكم مدينة صغيرة أن يسمى نفسه أميرًا للمؤمنين.
وكان نشوء حركة القومية العربية على يد القوميين العرب وجمال عبدالناصر وحزب البعث العربى الاشتراكى، حيث كان الانتماء للقومية العربية وليس الانتماء لدين الإسلام هو المحور المركزى لهذا التيار، وبدأت تدريجيًا نشوء دول عربية وإسلامية مستقلة يظهر فيها تفاوت فى مدى تطبيق الشريعة الإسلامية فى رسم سياسة الدولة، وكان المنحى العام فى تلك الفترة هو نحو العلمانية، ولم يكن هذا المنحى مقبولاً لدى عديد من مواطنى الدول العربية، وتم استعمال القوة فى نشر الأفكار القومية العربية والعلمانية فى بعض الدول مثل مصر فى عهد جمال عبدالناصر والعراق فى عهد حكم حزب البعث.
ولعلنا نذكر محاولة «صالح سرية» للاستيلاء على السلطة فى مصر ببضعة طلاب من الكلية الفنية العسكرية، حيث لقن هؤلاء الطلاب فى كتابه المسمى «رسالة الإيمان» أن التآمر القومى والوطنى مع الاستعمار الغربى والماسونية قد حطم الخلافة العثمانية، وسار فى ركابه أيضًا «شكرى مصطفى» الذى تزعم تنظيم «التكفير والهجرة»، وبعد محاولة اغتيال الرئيس جمال عبدالناصر سنة ١٩٥٤، طالب زعيم الإخوان المسلمين سيد قطب بإزاحة جمال عبدالناصر كقائد قومى عربى ونعته بالمرتد، وأدى هذا إلى حملة قمع للحركة من قبل النظام، وبعد إعدام قطب سنة ١٩٦٦، انقسم الإخوان حول تفسير أفكاره التى لخصها على الأخص فى كتابة «معالم فى الطريق»، حيث تبنت القيادة التقليدية الجهاد السلمى، وانفصل المتشددون المتطرفون وشنوا جهادًا عنيفًا لخلع الحكام المرتدين بنظرهم.
لكن وهم الخلافة يبقى، بل ويتحقق لأمير آخر فى أفغانستان هو «الملا عمر» ثم ينتقل إلى طامع آخر فى لقب الخليفة هو أبو بكر البغدادى زعيم إرهابيى تنظيم داعش، وتمثل جماعة الإخوان أحد أهم القوى المعاصرة التى تنادى بفكرة الخلافة وضرورة بعثها، وقد أقامت تنظيمًا دوليًا على نمط الخلافة المنشودة كان يهدف إلى إعادة الخلافة الإسلامية إلى العثمانيين بتولية رجب طيب أردوغان خلافة المسلمين، وهو الوهم الضائع الذى هوى بأردوغان والدولة التركية فى أغوار سحيقة لا قاعَ لها.. لتبقى تركيا دولة بلا هوية.. فلا أتاتورك استطاع أن يجعلها دولة أوروبية تأخذ بالحداثة، ولا استطاع أردوغان أن يجعلها دولةً إسلامية بأن يُعيد إليها الخِلافةَ.