قبل 3 أشهر من
الانتخابات الرئاسية الفرنسية، يشهد الحزب الاشتراكي يوم الأحد المقبل الجولة
الثانية من الانتخابات التمهيدية يتنافس فيها وزير التربية السابق بونوا هامون
أمام رئيس الوزراء الأسبق مانويل فالس في اختبار حاسم ينتهي باختيار مرشح الحزب
الاشتراكي في الاستحقاق الرئاسي المقرر عقده في أبريل ومايو القادمين.
وكان هامون قد تصدر نتائج الجولة الأولى من
الانتخابات التمهيدية، التي عقدت الأحد الماضي، بحصوله على 36% من الأصوات ليخلفه
فالس بحصوله على نسبة 31%، بينما احتل وزير الاقتصاد السابق أرنو مونتبورغ المركز
الثالث بحصوله على 17.6%.
ويتوقع المراقبون أن يكون هامون هو الفائز في جولة
الأحد القادم خاصة بعد إعلان مونتبورغ تأييده له، ودعا مؤيديه للتصويت لهامون، كما
وقعت مارتين أوبري زعيمة الحزب السابقة ومعها 20 من أبرز القيادات الاشتراكية من
البرلمانيين والوزراء على عريضة تدعو فيها الناخبين للتصويت لهامون حتى "يمكن
توحيد صفوف اليسار وقيادة فرنسا إلى مجتمع أكثر عدالة وقوة واستدامة".
وكشفت الجولة الأولى من الانتخابات التمهيدية
التراجع غير المسبوق في شعبية اليسار الفرنسي، فبعد 5 سنوات من حكم الرئيس فرنسوا
أولاند، أصبح الاشتراكيون أكثر انقساما وتشرذما وظهر ذلك في العديد من المؤشرات
أولها نسبة الإقبال الضعيفة على التصويت في الجولة الأولى من الانتخابات التمهيدية
والتي لم تتعد 1.7 مليون ناخب، في الوقت الذي أقبل أكثر من 4 ملايين ناخب على
التصويت في الانتخابات التمهيدية للأحزاب اليمينية في نوفمبر الماضي، وهو ما يعكس
هبوط أسهم اليسار داخل الشارع الفرنسي مقابل الصعود الملحوظ لأحزاب اليمين واليمين
المتطرف.
ثانى تلك المؤشرات ظهرت في تقدم وزير التربية السابق
بونوا هامون على مانويل فالس وهو ما جاء مخالفا لمختلف التوقعات واستطلاعات الرأي
التي رجحت تصدر رئيس الوزراء السابق قائمة المرشحين، ويعتبر العديد من المراقبين
أن هذا التصويت كان بمثابة تصويت عقابي ضد فالس أو بمعنى أدق ضد "مرشح
الحكومة"، فالناخب اليساري يشعر بخيبة أمل تجاه سياسات الحكومة الاشتراكية
والتي رآها الكثيرون مخالفة لقيم اليسار مثل اقتراح إسقاط الجنسية عن الفرنسيين
المدانين بالإرهاب واستقبال أعداد ضئيلة من اللاجئين مقارنة بدول أوروبية أخرى،
فضلا عن تبني بعض القوانين الهادفة إلى تحرير الاقتصاد وقانون العمل الذي يحث على
العمل أكثر براتب أقل واعتبره الكثيرون يسهل عملية تسريح العمال.
بالإضافة لذلك، فإن صعود هامون وفالس للجولة الثانية
يعكس تصادما بين تيارين يساريين مناقضين لبعضهما.. فهامون يمثل التيار اليساري في
الحزب الاشتراكي ومعروف بمواقفه المنحازة إلى اليسار المتجذر، وهو من أكثر
المنتقدين للرئيس أولاند وعارضه في العديد من سياساته منها على سبيل المثال رفضه
قرار منع لباس "البوركيني" وانتقاده لعدم تفاعل أولاند إزاء هذه القضية،
كما عارض مقترح إسقاط الجنسية عن الفرنسيين مزدوجي الجنسية المتورطين في أحداث
إرهابية، وهو من أكثر المدافعين عن الفقراء حيث اقترح فرض راتب عام بقيمة 750 يورو
في الشهر كحد أدنى لكل الفرنسيين البالغين سواء كانوا يعملون أم لا.
أما فالس فهو يمثل الجناح اليميني داخل الحزب ويحمله
الكثيرون مسئولية تردي الأوضاع التي تشهدها البلاد على اعتبار أنه كان رئيسا
للحكومة وواحدا من أبرز رموز النظام، كما أن استخدامه للمادة 3/49 التي سمحت
للحكومة بتمرير قوانين وصفت بـ"الصعبة"، مثل قانون العمل وقانون مثلي
الجنس، دون مصادقة من طرف البرلمان، قد تركت آثارا سلبية لدى الفرنسيين جميعا
ومؤيدي اليسار على وجه الخصوص، ورغم اعتراف فالس بأنه أرغم على استخدام هذا
القانون، إلا أنه لا يزال يدافع عن نتائجه.
لذلك فإن تقدم هامون على فالس يعكس رسالة واضحة
مفادها اختيار من سيعمل على إعلاء قيم اليسار ومبادئه، واضعا التحديات الاجتماعية
في مقدمة اهتماماته، كما تعكس رفضا جليا لاستمرار سياسات الحكومة الحالية.
أما ثالث المؤشرات التي تعكس مدى تشتت الاشتراكيين
تظهر في أن المرشح الفائز في جولة الأحد المقبل لن يكون المرشح الاشتراكي الوحيد
في السباق الرئاسي نحو الإليزيه بل أنه سيتنافس مع وزير الاقتصاد السابق إيمانويل
ماكرون ومرشح اليسار المتطرف جون لوك ميلنشون اللذين رفضا خوض الانتخابات
التمهيدية للحزب الاشتراكي وفضلا الترشح كمستقلين.
ويتمتع ماكرون بشعبية ملحوظة في الشارع الفرنسي فهو
يعلن دائما أنه لا ينتمي لليمين ولا اليسار ولا لأي تيار سياسي تقليدي بل يشق
طريقه برفقة مسانديه ويبلور أفكارا جديدة أصبحت تلقى صدى كبيرا في المجتمع
الفرنسي، وقد تحول ماكرون إلى ظاهرة سياسية منذ استقالته من منصبه الوزاري في
أغسطس 2016 ليؤسس حركة "إلى الأمام" التي نجحت في استقطاب عشرات الآلاف
من المساندين، غالبيتهم من الشباب الذين يرون في ماكرون رجل المستقبل صاحب الأفكار
الحديثة، فهو يتحدث لغة مختلفة عن لغة السياسيين التقليديين، ويعتمد في خطاباته
على كلمات عادية يستخدمها العام والخاص، ويتصرف بكل عفوية مما جعله في طليعة
الشخصيات السياسية المحبوبة من قبل الفرنسيين.
أما ميلنشون، عضو البرلمان الفرنسي ومؤسس حزب
"فرنسا العاصية"، فهو يتمتع أيضا بشعبية لدى الفرنسيين حيث تظهر
استطلاعات الرأي أنه يحتل المركز الرابع من بين المرشحين للسباق الرئاسي بعد
المرشح اليميني فرنسوا فيون ومارين لوبن زعيمة الجبهة الوطنية وإيمانويل ماكرون،
ويعتبر ميلنشون أن الحزب الاشتراكي فقد مصداقيته من خلال محاولة إخفاء أدائه
الليبرالي بعبارات وشعارات يسارية، كما أنه من أكثر المعارضين لسياسات الرئيس
أولاند وحكومته الاشتراكية.
في ضوء ما سبق، يبدو واضحا مدى التشتت الذي يعاني
منه اليسار الفرنسي والذي قد يقود إلى انهياره كليا في حالة عدم القيام بتغيرات
جذرية داخل الحزب للنهوض به، كما يكشف المشهد السابق أن صعود مرشح الحزب الاشتراكي
إلى الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية يبدو أمرا بعيد المنال، فالمرشحان
المستقلان سيخصمان من أصوات مؤيدي اليسار وبالتالي يقللان من فرص فوز مرشح الحزب
الاشتراكي وتأهله للجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية، وهو ما قد يسمح لزعيمة
اليمين المتطرف مارين لوبن بالتأهل إلى الجولة الثانية مثلما حدث في 2002 عندما
جاء والدها جان ماري لوبن في المرتبة الثانية بعد شيراك، في حين استبعد ليونيل
جوسبان ممثل اليسار.