أقتبس عنوان هذا المقال مباشرة مما كتبه عالم الاقتصاد الأمريكى الشهير «ﭘول كروجمان»، ونشره فى جريدة النيويورك تايمز مؤخرا.
والواقع أن «كروجمان» يعد من بين نقاد الممارسات الاقتصادية الخاطئة، بمعنى أنه رغم أنه يعتنق النظرية الرأسمالية إلا أنه عبر تاريخه الفكرى الطويل لم يكن يتردد فى ممارسة النقد المنهجى للسياسات الرأسمالية التى تطبقها الإدارات الأمريكية المختلفة أو تتبناها الدول الغربية الرأسمالية.
وهو فى المقال الذى نشره يوجه النقد العنيف للتصريحات التى أطلقها الرئيس الأمريكى المنتخب «ترامب» فيما يتعلق بالاقتصاد الأمريكى.
يبدأ «كروجمان» مقاله بفقرة بالغة الأهمية يقول فيها «تعرض نحو ٧٥ ألف أمريكى للتسريح أو الفصل من أعمالهم الخميس الماضى. قد يوفق بعض هؤلاء فى العثور على وظائف أفضل. لكن غالبيتهم سينتهى بهم الحال بأعمال أقل أجرا، وقد يبقى بعضهم عاطلا عن العمل لشهور وربما لسنوات. ولو ضايقك هذا الكلام وتساءلت عن الكارثة الاقتصادية التى تسببت فى كل هذا فالإجابة أنه لم يحدث شيء، فأنا فى الحقيقة فقط أفترض أن الخميس الماضى كان يوما عاديا فى سوق العمل. فالاقتصاد الأمريكى ضخم بكل ما تحمله الكلمة من معنى حيث يعمل به نحو ١٤٥ مليون شخص. ولكن هذه السوق دائمة التغير فالصناعات والشركات ترتفع وتنخفض، وهناك دائما خاسرون ورابحون. والنتيجة دائما عملية «مخاض» دائمة، دائما ما ينتج عنها اختفاء كثير من الوظائف على الرغم من توافر كثير من فرص العمل الجديدة. ويبلغ متوسط حالات الاستغناء الوظيفى فى الشهر الواحد نحو ١.٥ مليون استغناء قهرى (دون رغبة الموظف) أو ٧٥.٠٠٠ استغناء كل يوم، وهذا هو الرقم الذى قصدته فى بداية المقالة» لو حللنا هذه الفقرة لاكتشفنا الصورة الموضوعية للممارسات الاقتصادية فى سوق رأسمالى بالغ التقدم ومع ذلك - بحكم ضخامة السوق- يحدث استغناء عن ٧٥.٠٠٠ عامل موظف كل يوم ولا يسبب ذلك إزعاجا أو يعتبر كارثة اقتصادية؛ لأن التحولات فى السوق من زاوية اختفاء بعض الشركات وإنشاء شركات جديدة ممارسة عادية ثم يتساءل «كروجمان» ما السبب الذى دفعه لعرض هذه البيانات ويجيب بأن السبب هو توضيح الفرق بين السياسات الاقتصادية الحقيقية والسياسات الزائفة التى جذبت الانتباه فى وسائل الإعلام بدرجة كبيرة و«كروجمان» يشير إلى التصريحات التى أدلى بها الرئيس المنتخب «ترامب» من أنه تدخل لكى يمنع شركة «كاريير» من نقل وظائفها إلى المكسيك وهو بذلك أنقذ حوالى ٨٠٠ وظيفة.
ويقرر «كروجمان» أن «ترامب» بدأ وكأنه حقق إنجازا عظيما بتدخله لدى شركة «كاريير» لكن هذا غير حقيقى، فما حدث كان سياسة زائفة ولم يكن سوى استعراض بغرض الإبهار ولم يكن إنجازا حقيقيا أدى إلى نتائج واقعية.
الواقع أن الفكرة الرئيسة «لكروجمان» عن التفرقة الضرورية بين السياسات الاقتصادية الحقيقية والسياسات الزائفة التى قد يروج لها الإعلام فكرة بالغة الأهمية.
وذلك لأن الحديث عن الإنجاز الاقتصادى لأى نظام يقتضى أولا رسم الخريطة الاقتصادية الحقيقية للبلد باستخدام المؤشرات الكمية والكيفية. بمعنى أنه لابد أن تتضمن هذه الخريطة الأرقام الخاصة بمعدلات الأمية والتى تصل فى مصر إلى ٢٦٪ من عدد السكان ومعدلات الفقر التى تصل فى مصر إلى ٢٦ مليون مصرى تحت خط الفقر، وعدد السكان الذين يعيشون فى العشوائيات وعددهم ١٨ مليون مواطن، فإن هذه المؤشرات الكمية تعطى صورة واقعية للأحوال الاقتصادية والاجتماعية فى مصر. وإذا أضفنا إلى ذلك معدلات البطالة بشكل عام ومعدلات البطالة بين الشباب بشكل خاص مما يجعل المجتمع المصرى يندرج تحت فئة «مجتمعات الخطر». ويمثل ذلك أساسا صالحا للتمييز بين السياسات الزائفة التى قد يروج لها النظام والسياسات الحقيقية التى من شأنها مواجهة المشكلات الخطيرة التى تواجه الاقتصاد المصرى والتى تؤثر بالسلب على حياة المواطنين.
بعبارة مختصرة هذه السياسات الحقيقية لابد لها أن تتعرض لمشكلات الأمية والفقر والعشوائيات والبطالة والافتقار إلى السكن وتدنى مستويات الصرف الصحى وتدنى مستوى الخدمات الصحية.
ومعنى ذلك أننا فى حاجة إلى ثورة اقتصادية وليس مجرد إصلاح اقتصادى!
eyassin@ahram.org.eg