حرر السفير الألمانى بالقاهرة كلاوس سيزمار كتابًا سريًا وعاجلًا إلى رئيس ديوان المستشارية الألمانية فى برلين، بتاريخ ١٥ نوفمبر ١٩٩٣، بخصوص القبض على المواطن الألمانى يوخن سافاتسكى، الذي ألقت سلطات الأمن المصرى القبض عليه، فى إطار عملية لمكافحة الإرهاب.
أرفق السفير كلاوس سيزمار بكتابه السرى ملحقًا بالهجمات الإرهابية التى وقعت فى مصر منذ يناير ١٩٩٣ وحتى تاريخ القبض على سافاتسكى فى نوفمبر ١٩٩٣. يجلس السفير سيزمار فى مكتبه بمقر السفارة ويطرح سؤالًا بالغ الأهمية ومنطقيًا جدًا، سؤالًا لطالما شغل أذهان علماء الاجتماع وعلماء السياسة، لماذا يقرر رجل فى الثلاثين من عمره، ويعيش فى ألمانيا أن ينضم إلى منظمة إرهابية مصرية؟ إنه يريد أن يعرف ماهية هذا الدين الذى يحول شابًا ذكيًا لقاتل يدعي لنفسه القداسة.
يريد أن يعرف لماذا يومئ مواطنون أفاضل بالموافقة عندما يسمعون عن هجمات، أو فقط الأسباب التى تدفع برجال ناضجين إلى الركوع خمس مرات يوميًا والبكاء عند سماع ترتيل القرآن؟ يريد أن يعرف ذلك لنفسه وليس من أجل وزارة الخارجية.
فى حالة سافاتسكى تبقى مهمة السفير الألمانى هى رد شاب مشوش إلى صوابه وإجبار النيابة العامة المصرية على تطبيق القانون الدولى، بدلًا من القوانين المصرية، وتسليم سافاتسكى للسلطات الألمانية ومحاكمته أمام القضاء الألمانى، والتفاوض مع الحكومة المصرية على الثمن الواجب دفعه ومنع المصريين من إحساسهم بالغبن.
يتميز الروائى كريستوف بيترس فى «حجرة فى دار الحرب» بتسجيل ملاحظاته الأنثربولوجية للواقع المصرى المعاش فى مدينة القاهرة، باعتبارها عاصمة «كوزموبوليتانية» تحفل بالعديد من التناقضات الصارخة، بدءًا من رصد مظاهر الحياة فى شارع الهرم، مرورًا بالأحياء الراقية كالزمالك، وصولًا إلى أفقر الأحياء الشعبية فى مدينة القاهرة. «لا يوجد تفسير للسحر الذى تمارسه القاهرة على سكانها، مدينة تبتلعك بشراهة، حارة، غير منظمة، ضجيج، دخان». يذخر مكتب السفير سيزمار بالعديد من الملفات عن الواقع الاجتماعى لمصر ودول الشرق الأوسط، وفقًا للمعلومات يُجَند الجُناة بشكل أساسى من جموع الشباب خريجى الجامعات، ليس لديهم أى فرص عمل، سائقو سيارات أجرة بمؤهل عالٍ، ماسحو أحذية بشهادات دكتوراه، إنهم يمارسون الحرب المقدسة كوسيلة خلاص أخيرة من فقدان الإحساس بالذات.
ينطلق سيزمار من أن سافاتسكى ذو شخصية ضعيفة سهل التأثير عليها، فقد سبقت تلك القصص المعتادة لجميع مرتكبى الجرائم ذات الخلفية الأيديولوجية، طفولة تعيسة، مرحلة شباب فاسد، جرائم صغيرة. الاستعداد لأن يتبع أى مخادع ما دام سيعطيه شعورًا بالأهمية متشابهًا.
عمليات التحول من شخص مهمش إلى شخص متطرف أيًا كانت القنابل التى يلقيها ضد الرأسمالية أو الشيوعية، أو من أجل ديانة كاثوليكية أو إسلامية أو يهودية. ماذا يحدث لغريزة حب البقاء التى تعد الأقوى داخل الإنسان، لماذا يريد أحد له مستقبل ينتظره أن يموت. ليس العالم بهذا السوء.. من الممكن أن يصنع شيئًا بحياته.. مم تنطلق الرغبة فى التخلص من الحياة كما لو كانت جريدة مقروءة؟.
تلك الرؤية العدمية للحياة والعالم المترسخة فى البنية العقلية والرؤية الأيديولوجية للإرهابيين، هى فى أحد جوانبها الرئيسية، رد فعل لعيوب كامنة فى بنية الحداثة الغربية، ونظامها «الليبرالية الجديدة» التى تعيد إنتاج آليات الاستبعاد الاجتماعى والإقصاء والتهميش. ويكتب بيترس على لسان السفير الألمانى سيزمار «لو أقيمت انتخابات حرة سينجح المتطرفون ويقيمون دولتهم الثيوقراطية.. سيرجمون الزانيات ويقطعون أيدى اللصوص.. فى الغالب سيهدمون المعابد ويكسرون صورة الآلهة ويغلقون المتاحف، لأن التماثيل تطرد الملائكة». لقد حدث ذلك بالفعل فى الواقع المعاش فى حياتنا العربية، فتنظيم داعش الإرهابى قام بتدمير المتاحف والمدن التاريخية، التى تمثل تراث الإنسانية فى العراق وسوريا ونفذ عمليات إعدام ميدانية بحق نسوة ادعى أنهن يمارسن الزنا، ومارس نشاطه اليومى فى القتل والتخريب. وفى مصر ظهر من داخل التنظيمات الإرهابية من ينادى بهدم أبوالهول وتدمير الأهرامات.
وعلى الرغم من جهود السفير سيزمار من أجل تسليم سافاتسكى للسلطات الألمانية من أجل عدم تنفيذ حكم الإعدام بحق سافاتسكى، فإن قيمة الحياة لم تعد تساوى شيئًا فى نظر الإرهابى وتعرضه لعمليات غسيل مخ، فيقول لسفيره الألمانى: «وماذا عساى أن أفعل فى ألمانيا؟ أتجول مع المجرمين داخل الساحات الخضراء فى السجون، وأقوم بطى الأكياس الورقية، وأمارس الرياضة من حين لآخر؟».