استوحيت هذا العنوان من مثل صينى مشهور «لا تُعطنى سمكة بل علمنى كيف أصطادها»، ليقينى أن مصر ثرية ثراء البحر الغنى بشتى أنواع وصنوف الحياة، ويحتوى فى باطنه علي الخير الوفير، فلا تُعطنى منه سمكة فهى جزء من كثير، بل علمنى كيف أصطاد هؤلاء الفاسدين الذين يسرقون هذا الخير ويدمرونه، فتمتلئ كروش الحيتان بالثروات، بينما أنا لا يبقي فى يديّ سوى سمكة لن تساعدنى على الحياة أو البقاء طويلًا فى ظل هذا الجو المشحون بالفساد.
فعلى الرغم من أنّ الصدمة الشاملة التى عاشها المجتمع الأيام الماضية بعد الكشف عن قضية الفساد الكبرى لمسئولى المشتريات بمجلس الدولة التى أُطلق عليها شعبيًا مغارة على بابا، واهتز البلد للواقعة، وكأَن زلزالًا بقوة ٧ ريختر قد ضربها خُصوصًا مع انتحار المستشار وائل شلبى أمين عام مجلس الدولة، على الرغم من ذلك كله إلا أن الحقيقة المؤلمة أنه فى نفس وقت الكشف عن هذه القضية كانت الرقابة الإدارية قد ضبطت أكثر من قضية فساد لا تقل أهمية عن «مغارة على بابا»! لكن الإعلام لم يغطها بالقدر الكافى لأنها خارج حدود القاهرة.
قضايا عديدة للفساد كُشفت منها ضبط مدير الشئون القانونية بمديرية الزراعة بالمنيا لتقاضيه مبلغ ٧٣ مليون جنيه من صغار الفلاحين بدعوى تحويل الأراضى الزراعية إلى أراضي مبانٍ. وأيضًا رئيس أملاك الدولة بكفر الدوار بعد أن تغاضى عن مخالفات تقدر بـ ١١٨ مليون جنيه! وهو الأمر الذى يؤكد أن الفساد فى مصر عميق ومتوغل فى الدولة ويجد بيئة خصبة للعيش فيه وتوفر له الحماية وتغض البصر عنه.
الخطير أن الفساد فى مصر أصبح ثقافة عامة لدى بعض الموظفين ضعاف النفوس الكبير منهم قبل الصغير، هؤلاء هم من يلتهمون خيرات البحر فى بطونهم، ويكتفون بأن يعطونا سمكة كى نعيش حياتنا، هؤلاء حيتان البحر الذين لا بد أن نتعلم كيف نصطادهم ليتوقف نزيف الهدر المتسارع والمتجه إلى بطونهم.
مثلًا.. رصدت مؤسسة «شركاء من أجل الشفافية البحثية» فى تقريرها الأخير عن حجم قضايا الفساد فى شهر ديسمبر من عام ٢٠١٦ أن عدد وقائع الفساد المضبوطة وصلت إلى ٥١ واقعة. منها ١٠ وقائع فى وزارة التموين وحدها تليها ٩ وقائع فى قطاع المحليات و٧ وقائع فى وزارة الزراعة و٥ وقائع فى قطاع وزارة الصحة و٣ وقائع بوزارة العدل، وهو ما يدل على أن حجم الأموال المنهوبة فى مصر أكبر مما يتصوره عقل وأصبحت وزارات بعينها يعشش فيها الفساد بشكل كبير.
فالمحليات على سبيل المثال تحولت لأكبر مستنقع للفساد وأبناء الريف يعرفون جيدًا حجمه المنتشر فى هذا القطاع منذ عقود طويلة خاصة فى عصر الرئيس المخلوع مبارك. فهناك عبارة شهيرة لأحد رموز نظامه قالها واقفًا فى مجلس الشعب: «إن فساد المحليات وصل للركب». وهو ما يعنى أن الفساد فى مصر ليس وليد لحظة، بل هو أمر ممتد فى الدولة مُنذ عشرات السنين سواء فى المحليات أو غيرها، وأصبح من الصعب الكشف عنه لولا الأجهزة الرقابية وعلى رأسها جهاز الرقابة الإدارية أحد معاول هدم الفساد فى مصر. وهو الجهاز الذى يشهد له الشعب بالهمّة خاصة بعد الضربات المتلاحقة للفاسدين طوال الشهور الماضية بداية من حملاته الموسعة فى جميع المحافظات وعلى الأسواق والمجمعات الاستهلاكية وضبطه لكميات كبيرة من السلع المهربة والفاسدة المضرة للاستخدام الآدمى، وانتهاء بقضية الرشوة الكُبرى.
الفساد فى مصر لا يحتاج إلى جهاز الرقابة الإدارية فقط. ولا كل أجهزة الدولة تكفى للقضاء على هذا المرض السرطانى، الفساد يحتاج تكاتفنا جميعًا وأن نقف صفًا واحدًا ضده وضد كل من يدعمه ويتربح من خلفه، وأن نضرب بيد من حديد على هؤلاء الفسدة الذين يسرقون قوت الشعب ويضربون الاقتصاد والاستثمار المصرى فى مقتل ويعطلون أى خطوة تخطوها البلاد إلى الأمام.
فعلى الرغم من الإصلاحات الاقتصادية التى تشهدها مصر هذه الأيام إلا أن الأمر يحتاج معه للقضاء نهائيًا على الفساد، لإعادة الثقة فى أنفسنا أولًا قبل أن نعيد الثقة إلى المستثمر الأجنبى الذى يريد أن يستثمر أمواله بطريقة قانونية سليمة وبدون طرق ملتوية.
نحن نحتاج إلى مواجهة حاسمة مع هذا المرض الذى ينخر فى عظام الاقتصاد المصرى ويتغلغل فى شتى أنواع الحياة.
مواجهة الفساد ليست سهلة بل تحتاج إلى نَفس طويل، وتحتاج ليد تضرب عليه بمطرقة من حديد وتفخيخ البيئة الجيدة التى تنمو فيها حتى لا يتوحش ويصبح أكبر من قدراتنا.