انطلقت بقوة صاروخية خارقة صيحة جنون عاصفة، اجتازت حدود الزمان والمكان، أطلقتها طيور بشرية حرة طليقة، تجردت من لحمها، وتشكلت فى خطوط لحنية وضوئية ولونية زاهية فى مهرجان مُعْجِز مَهيب، امتزجت فيها بساطة لغة الكلمات متناهية العمق بعبقرية لغة الجسد بالغة الحرارة والحساسية بسحر لغة الموسيقى غامرة البهجة والإيحاء بعذوبة خفقات الروح مفرطة الرهافة والشفافية فى وحدة هارمونية متناسقة.
أتاح هذا التلاحم الحميم بين تلك القوى الفاعلة، لوحة فنية بديعة، انسجمت فيها دلالة الكلمات البليغة النافذة مع تدفق حركة الجسد المقتحمة الآسرة، فكانت تجسيدًا صادقًا لأقوى درجات التعبير عن الأفكار والمشاعر والرغبات والآلام والإحباطات وتطلعات الروح فى بحثها الدائم عن معنى مشرق للحياة.
انكشف الستار عن الأسرار الإنسانية والتشكيلية الكامنة فى تلك المخلوقات الملهمة، التى سَلَّمت نفسها إلى نبضات الكون غير المرئية، كى تصبح جزءًا من إيقاعه، فبدت كأنها شموسًا ساطعة، زاخرة بعناصر الجمال، وقيم الاتساق، وأشعار الحركة المتناغمة.
«أيامنا الحلوة» هو أجمل عرض مسرحى شاهدته على الإطلاق منذ عشر سنوات، لطلبة «قسم التمثيل» الدفعة الأولى باستوديو مسرح مركز الإبداع الفنى، تأليف وإخراج المبدع «خالد جلال»، الذى شغل مديرًا للمسرح وأستاذًا للتمثيل المسرحى والارتجال به آنذاك.
تدور الفكرة الرئيسية حول «حلم النجومية» الذهبى الذى يسكن فكر وروح ووجدان طلبة القسم، كانعكاس صادق لما يموج داخل كل الشباب والفتيات، المتأثرين بما يحدث حولهم من متغيرات ومفارقات ومتناقضات طول الوقت، ورغم أنهم يصطدمون بواقع مادى وفردى وأنانى، فيختنق فى نفوس البعض المشوشة والمضللة، التى ارتضت مصير «المُمْتَثِل» العاجز والمحبط، إلا أنه يصمد فى المقابل فى نفوس آخرين، ويظل يدفعها بإصرار على مواصلة المجاهدة والتكريس والحشد، والتوغل فى شرايين التأمل والبحث والتجريب والمغامرة، محاولاً اختراق حاجز الحياة المألوفة، للكشف عن حياة أخرى حقيقية خفية، يتجلى بها التواصل بين الكون وكل البشر، لاجتياز تلك العتبات المتراكمة بين روعة الحلم والواقع المأزوم.
وفى غمرة لحظات الانخطاف والنزهة الأسطورية المثيرة فى عوالم الخيال الرحبة وأشعته الصافية الناصعة، يتفجر شعور داخلى جارف بحتمية «الانتظار»، تلك الطاقة النورانية المتقدة، التى تزداد توهجًا، لتشرخ جدار الألم الحجرى، وتذيب حصن الكآبة الثلجى، وتنفض غبار اليأس الغجرى، وتتخطى مستنقع الحزن الأزلى.
إن «الحلم الجميل» يلامس هذا الواقع، وهو جاهز دومًا للتدخل، وقلب كل شىء، إذا عرفنا فقط أن نمسك باليد التى لا ينفك يمدها إلينا عبر سور الوجود اللا محسوس، الذى يفصلنا عن حضرته العزيزة. إنه سر الإيمان الراسخ بقوة الحياة الأكثر إثارة، والأعمق معنى، والأوسع أفقًا، التى تنهمر كالشلالات الهادرة فى وجه ركامات الخمد والسكون فى هذا العالم، لتعيد النشوة الكاملة والتفتح المشرق فى أروقة القلب والعقل والجسد.
تضافرت عناصر الفن المسرحى الأساسية فى هذا العرض؛ وهى «القول» أو «جسم الرواية»؛ الكلمة، الغناء، الموسيقى؛ الفعل أو «روح التمثيل»؛ الإشارة، الحركة، الرقص، الإطار؛ المكان، الزمان، والجو العام.
لعبت «المؤثرات الضوئية» دور العصب، أو قلب المَشاهِد القصيرة المتعاقبة النابض، الذى يحكى مواقف دراميةً طريفة بين الطلبة وبعضهم، لتنسج كيانا دراميا متماسكا، تتزاوج فيه كل هذه العناصر الحيوية فى علاقة عضوية وجدلية مع عناصر مكملة؛ مؤثرات الصوت، الملابس، الإكسسوار، والمكياچ... إلخ.
تميز أداء كل المشاركين بالفهم الكامل للشخصيات الدرامية، ومضمون الرسالة الإنسانية، وجمع «تكنيك التعبير العالى» بطلاقة بين طبيعية وإتقان «الأداء التمثيلى»، ومرونة وسلاسة «الأداء الحركى» الفردى، ولياقة ورشاقة «الأداء الجماعى الراقص»، الذى ترسمه ألوان موسيقية وغنائية متفردة فى دفئ حوار ثرى، يفيض ابتهاجًا ومرحًا وتفاؤلاً. نجح «المخرج» فى توظيف أغنيتى «يعنى اللى فى قلبى فى قلبك» و«بنت وولد» فى بداية العرض ونهايته، واستعراض (وصلنا، وصلنا، ولا هَمْ كسرنا، ولا ريح تقهرنا، طول ما إحنا نشوط، وصلنا، وصلنا، قربى يا نجوم، نور يا اسبوط)، ليضفى بظلال قوة حماسية كثيفة ومنعشة على كافة أجواء العرض.
لعبت الإضاءة دورًا أساسيًا فى نسيج التكوين الدرامى، فلم تقتصر على جذب الانتباه والتركيز، بل منحتنا الإحساس بالحالة النفسية والشعورية لجميع الشخصيات، كما خلقت جوًا ساحرًا داخل المشاهد الدرامية المشحونة بالفرح والألم والشجن.
ظهرت حرفية «المخرج» فى توزيعها، فمرة يسمح بانتشارها على مستويات متماثلة على خشبة المسرح والممثلين، وأخرى يستغل أبعادها وانعكاساتها اللونية؛ المركزة، الموجهة، القوية، الخافتة، التى لم تعكس مضمون الرسالة، وتكشف مكنونها فحسب، بل تطلق خيال المشاهد فى آفاق لا نهائية، تشعره بأنه أمام ديكورات مبهرة، فى الوقت الذى بدت فيه خشبة المسرح خالية تمامًا، ما أتاح للشخصيات الحرية المطلقة فى أداء مختلف الحركات والرقصات الفردية والجماعية.
تلك الرؤية الفلسفية الجادة، الثائرة، المبهجة، الغنية بالتأملات والمشاعر والأفكار الغائرة فى النسيج والبناء والمعنى، لا تسعى إلى نَفْى هذا الواقع المهترئ، ورفض ملاقاته، وإنما تُصِر على مواجهته بثقة وابتسامة، تخاطبه بتأنِّ وهدوء، ثم تشاركه، وتتفاعل وتندمج معه، وتتأثر به، وتؤثر فيه. نجح هذا العرض المسرحى عن جدارة فى صفع وحشية عالمنا الغائم الذى يشهد انتكاسة دامية فى فكره وثقافته وروحه المبدعة، صفعة ناجزة، ليمنحنا حلمًا مدهشًا، يدوم معنا إلى الأبد.