جاءت كلمةُ فضيلةِ الإمامِ الأكبرِ
الأستاذِ الدكتور أحمد الطيب في «اجتماع ميانمار» كخُطوةٍ على طريقِ صُنعِ سَلامٍ
عادلٍ ودائمٍ لتخفيفِ آلامِ المسلمين في ميانمار، وتحقيقِ آمالهم، كما قال فضيلته،
وقد أبى بعض المُشَغِّبين المتحمسين بعاطفة فارغة إلَّا أن يشككوا في كلام الإمام
ويُحمِّلوه ما لم يحتمل، مستنكرين ثناء الإمام على ما تضمنته تعاليم البوذية من
أخلاق كريمة في وقتٍ تسيل في دماء المسلمين من أبناء بورما في مجازر وصفتها هيئة
الأمم المتحدة أنها أبشع مجازر الوقت، وهذا مما يقتضي من فضيلة الإمام الاجتهاد
والإسهام في حلِّ هذه القضية من جذورها، بالطرق التي ترضي حماسهم، من توصيف للواقع
المؤلم، وتقريع للمعتدي، وعون للمظلوم.
وهذا - بدون شك أو امتراء - إخراجٌ
للكلمةِ عن سياقها؛ فالناظرُ في الكلمةِ بعين الإنصافِ يرى في مطلعها بيانًا
صريحًا بشأن الخطر الماحق الذي يتهدَّد أوطانهم موصوفًا بفقدانه لكلِّ المُبرِّرات
والبواعث الدينية والإنسانية والحضارية. وتأمَّل قوله: «لا أعرف فتنة أضر على
الناس، ولا أفتك بأجسادهم، وأسكب لدمائهم من القتل والقتال باسم الدين تارة، وباسم
العِرق تارة أخرى، فما للقتل بُعِث الأنبياء...» إلخ. فأي بيان أوضح من هذا؟! إنَّ
فضيلةَ الإمام لمَّا تكلَّم عن أخلاق «بوذا» وحكمته ومودته لم يقصد إلا إقامة
الحجَّة على المنتسبين إلى هذه التعاليم، وهذا أسلوب معروف في إلزام المخالفين
والمعارضين بالمبادئ التي يؤمنون بها.
وقد رأينا صيحة الإمام المدوية تنادي: «إن
حكمة البوذية والهندوسية والمسيحية والإسلام التي تذخر بها أرضكم تناديكم صباح
مساء: لا تقتلوا، ولا تسرقوا، ولا تكذبوا...». فهل من أمانة المسلم ومروءته أن
يتعامى عن كل ما بُذِل ويُبذل في هذا المسعى من أجل وقف مجازر القرن الواحد
والعشرين والتي شهد العالم كله بها، وعجزت المنظمات الإسلامية بل والعالمية عن
حمايتهم، هل من أمانة الأخوة في الدين أن يضرب هؤلاء صفحًا عن كل ذلك، ويتمسكون
بالحماس الكاذب والغيرة الجاهلة والغوغائية الفاضحة، وهل يظن هؤلاء أن هذا العبث
الذي يتزيا بزي الواعظ الخبير بدلالات الألفاظ الدينية ومعانيها، ويتعامى عن
دلالات القتل والتشريد ومآسيهما؟ إن المسلمين في بورما بحاجة إلى من يقف معهم
ليعصم دماءهم وينقذ نساءهم وأطفالهم، لا لمن يتباكى عليهم، ويسدي إليهم النصح
الفارغ الذي يؤجج نيران المتعصبين، ويحثهم على مزيد من الولوغ في دماء المسلمين.
إن الغيبوبة الفكرية التي يغط فيها
هؤلاء المتسلقون على منابر التواصل الاجتماعي تكاد تقضي على البقية الباقية من
احترام هذا الدين العظيم في نفوس الناس، وتكاد ترسخ ما يتردد عن المسلمين على
وسائل الإعلام الخبيثة بأنهم أمة جهل وتوحش وبربرية، وصدقت الحكمة القائلة: «عدو
عاقل خير من صديق جاهل».
إن الإمام يا سادة لم يُزَيِّن باطلًا،
ولم يضع شيئًا في غير موضعه؛ فإنه عندما تكلَّم عن البوذية كديانة وصفها بالإنسانية
لا السماوية، وعندما ذَكَرَ صفات «بوذا» نقلها عن كبار مؤرخي الأديان، ولم ينسبها
هو له، فكيف لو قال بما قال به العلامة جمال الدين القاسمي (ت.1332هـ) في «محاسن
التأويل»: 9/502: «استظهر بعض المعاصرين أن قوله تعالى: (والتِّينِ) يعني به: شجرة
«بوذا» مؤسس الديانة البوذية، التي تحرَّفت كثيرًا عن أصلها الحقيقي؛ لأن تعاليم
بوذا لم تكتب في زمنه، وإنما رويت كالأحاديث بالروايات الشفهية، ثم كتبت بعد ذلك
حينما ارتقى أتباعها، ثم قال: والراجح عندنا، بل المحقق - إذا صح تفسيرنا لهذه
الآية- أنه كان نبيًّا صادقًا ويسمى «سكياموني» أو «جوتاما» وكان في أول أمره يأوي
إلى شجرة تين عظيمة وتحتها نزل عليه الوحي، وأرسله الله رسولًا، فجاءه الشيطان
ليفتنه هناك فلم ينجح معه، ولهذه الشجرة شهرة كبيرة عند البوذيين، وتسمى عندهم
«التينة المقدسة» وبلغتهم «أجابالا»؟! ا.هـ. وتبقى قضية الألوهية عند «بوذا» محل
خلاف في الدراسات والأبحاث المُعمَّقة عند علماء مقارنة الأديان، يثبتها قوم
وينفيها آخرون، والناظر في أقوال المثبتين والنافين يرى أنها محض استنتاجات لا
سبيل معها إلى الجزم بأحد الاحتمالين؛ وانظر فصل: قضية الألوهية عند «بوذا»
وأتباعه من كتاب «البوذية تاريخها وعقائدها» للدكتور عبدالله مصطفى نومسوك الأستاذ
بجامعة الأمير سونكلا فطاني بتايلاند.
ويقول الدكتور محمد كمال إبراهيم جعفر
في كتابه «الإسلام بين الأديان»، 250: «إن من العسير جدًّا التمييز بين الحقيقة
التاريخية وبين الأسطورة فيما يتصل ببوذا أو بتلاميذه وحوارييه، ولقد أظهرت
الدراسات المتتابعة أن كثيرًا من التعاليم المنسوبة «لبوذا» تعتبر متأخِّرة عن
عصره»، وإذا لم يكن ثَمَّة نقل صحيح نقطع معه بإيمان «بوذا» بالإله أو جحوده له،
فإننا نقول على قاعدة أهل العلم: «عدم النقل ليس نقلًا للعدم». كما لا يمتنع أن
يكون التحريف قد طرأ على مقالاته من قِبَل أتباعه على مرِّ السنين، وهذا أمرٌ لا
ينكره عقل، وله في الواقع شواهد كثيرة. ويبقى الأمر المتفق عليه بين العلماء
والباحثين والذي قرره الإمام الأكبر؛ هو أن الجانب الخلقي في تعاليم «بوذا» ثابت
بدون أدنى ريب، سواء عند من أثبت أنه نبي أو إله أو من نفى ذلك، وإنكار هذا الجانب
الخلقي في تعاليم «بوذا» جهل فاضح، وعورة يجب سترها.
وقد عقد الإمام الشهرستاني (ت.548هـ) في
كتاب «الملل والنِّحَل»: 1/228 بابًا في من لهم شبهة كتاب، ذكر فيهم جملة من
الأديان كـالمجوسية، والكيومرثية، الزروانية، والزردشتية، وغيرها، وكلمة «شبهة
كتاب» تحمل نفس المعنى الذي قصده فضيلة الإمام وزيادة، وإن اعترض هؤلاء الشانئون
على استعمال الإمام لكلمة «دين» فليعترضوا على القرآن الذي سمى عقائد الكافر
بالدِّين، فياليتهم يفهمون من سورة «الكافرون» ما يفهمه صبيان الكتاتيب والنابهون
من الأطفال، وسواء كان «بوذا» نبيًّا أو حكيمًا، أو حتى ملحدًا زنديقًا، وسواء ما
نُقِل عنه من أخلاق كريمة كان صحيحًا أو غير صحيح فإن استعمال بعض ما نقل لإقامة
الحجة وإلزام المعارض هو الموافق للعقل والحكمة.. فاللهم أحم هذا الدين المبين من
أتباعه الجاهلين.