إن تفحص حالة الإعلام المصرى فى عام ٢٠١٦ بشكلٍ دقيق يجعلنا نصل إلى حقيقةٍ واحدة، وهى أن هذا الإعلام يعانى أزمة غير مسبوقة فى تاريخه؛ فقد أصبح التعثر الاقتصادى السمة الغالبة للمؤسسات الإعلامية المملوكة للدولة، وهو التعثر الذى يرجع لعدة أسباب منها تكدس العمالة فى المؤسسات الإعلامية، والفساد فى مؤسسات إعلام الدولة، وضعف الموارد وتراجع الإعلانات؛ فإعلام الدولة يعانى من نزيف الخسائر وتكدس العمالة، فقد بلغت مديونية الأهرام على سبيل المثال ٦٩٤ مليون جنيه عام ٢٠١٤، وكشف قرار ربط موازنة الهيئة القومية لاتحاد الإذاعة والتليفزيون للعام المالى ٢٠١٥/٢٠١٦، أن جملة الأجور المقدرة للهيئة بالعام المالى الجديد بلغت ٢.١ مليار جنيه من إجمالى مصروفات مقدرة بنحو ٥.٩ مليار جنيه، وبلغت الخسائر العامة المقدرة بمبلغ ٤.١٤ مليار جنيه مقابل ٣.٦ مليار العام الماضى، فيما بلغت موازنة الهيئة نحو ١١.٥٥ مليار جنيه، وقد انعكس ذلك فى اتجاهات العاملين الذين ترى نسبة كبيرة منهم حاجة ماسبيرو لإعادة الهيكلة وتحديث النظم وتطويرها.
ولا تقتصر هذه الإشكاليات على مؤسسات الإعلام المملوكة للدولة فحسب، بل شهدت سوق الإعلام الخاص خلال العاميْن الأخيريْن أزماتٍ اقتصادية أدت إلى إغلاق بعضها، ولجوء البعض الآخر لتسريح العمالة لخفض النفقات، فقد شهد عام ٢٠١٥ إغلاق النسخة الورقية لصحيفة «التحرير»، كما سبق أن رفعت الصحف أسعار بيعها بنسبٍ متفاوتة، وخفض بعضها رواتب الصحفيين، واستغنت أخرى عن متعاونين، وفى عام ٢٠١٦ أنهت فضائيات عدة عقود عمل مُعدين فيها، وقلص بعضها حجم برامجه السياسية لمصلحة البرامج الترفيهية المُنتجة فى الخارج والتى تَلْقَى رواجًا إعلانيًا، وتُخطط شركات لإغلاق قنوات ضمن شبكاتها، خصوصًا الإخبارية منها، فى مؤشرات على تعثر لم يكن الإعلام الرقمى فى منأى عنه فى ظل تفضيل المعلنين لوسائط الإعلام المرئى.
وثمة جملة من الأسباب التى تقف وراء الصعوبات المالية التى تواجه عددًا كبيرًا من الفضائيات والصحف المصرية الخاصة، أهمها تراجع عائدات الإعلانات، مما ينفى عمل هذه الوسائل الإعلامية وفقًا لأى نموذج اقتصادى يحقق أى جدوى اقتصادية من استمراريتها، وعلى الرغم من عدم وجود إحصاءات دقيقة لحجم عائدات سوق الإعلانات فى مصر، إلا أنه توجد فجوة تمويلية ضخمة بين عائدات هذه الإعلانات ومصروفات الوسائل الإعلامية؛ وهو ما يحدده البعض بوجود فجوة تمويلية تبلغ حوالى مليار جنيه، وقد أشارت دراسة حديثة شملت عدة دول، أعدَّها «نادى دبى للصحافة» بالتعاون مع شركة «ديليوت» العالمية للاستشارات والتدقيق، إلى انخفاض عائدات الإعلان فى قطاع الفضائيات فى مصر بنسبة ٣٠٪ خلال الفترة من ٢٠١١ إلى ٢٠١٦.
وتتفاقم هذه الأزمة الاقتصادية بالنظر إلى خروج المال السياسى الذى كان قد تدفق من خارج البلاد على صناعة الإعلام، من أجل تحقيق أهداف إقليمية التقت مع إرادة القطاعات الغالبة من الجمهور المصرى ومعظم المؤسسات الوطنية، بعدما شعر أصحاب تلك الأموال بأنهم حققوا أهدافهم، أو القدر الأكبر منها على الأقل، وكذلك انصراف قطاعات مؤثرة عن متابعة المحتوى السياسى المقدم عبر وسائط الإعلام التقليدية لمصلحة وسائط الإعلام الاجتماعى أو المحتوى الترفيهى، وللإفلات من هذه الأزمة الاقتصادية لجأ بعض القنوات الفضائية إلى الاندماج والتركيز مثلما فعلت فضائيتا «النهار» و«سى بى سى»، كما تم بيع بعض الفضائيات لرجال أعمال مثلما هو الحال مع فضائيتيْ «أون» اللتيْن بيعتا لرجل الأعمال أحمد أبوهشيمة، ودخول أجهزة الدولة السيادية فى الاستثمار فى مجال الإعلام مثلما هو الحال فى شبكة «دى إم سى» لتشكيل وعى الجمهور بطريقتها بدلاً من قيام وسائل الإعلام الأخرى بهذا الدور بالوكالة، وبطريقة تسبب إحباطًا لهذه الأجهزة.
وبنهاية عام ٢٠١٦، لاحت فى الأُفق أزمةٌ أخرى واجهت الصحافة المطبوعة، ولا سيما بعد تحرير سعر صرف الجنيه، حيث ارتفعت أسعار الورق وتكاليف الطباعة بشكلٍ مخيف، لدرجة أجبرت مؤسسة «الأهرام» على مخاطبة الصحف التى تُطبع بمطابعها بأنها ستزيد تكاليف الطباعة بنسبة ٨٠٪ بدءًا من منتصف ديسمبر الماضى، وهو ما يضاعف من مشكلة الصحافة المطبوعة بمضاعفة تكاليف طباعتها، وقد أدى هذا إلى زيادة سعر النسخة من الصحيفة إلى ثلاثة جنيهات، وهو رقم سيؤدى إلى انكماش توزيعها بشكل كبير، ويزيد ويُفَاقم من أزمتها الراهنة، والتى سبقت زيادة أسعارها.
فقد انكمشت سوق الصحف المطبوعة فى مصر بشكلٍ خطير فى الآونة الأخيرة؛ ففى الوقت الذى وصلت فيه هذه السوق إلى توزيع ثلاث مليين نسخة فى أوائل عقد السبعينيات عندما كان سكان مصر يصلون إلى حوالى ٣٩ مليون نسمة، انكمشت هذه السوق حاليًا وفقًا لبعض المصادر إلى ما بين ٧٥٠ ألفا ومليون نسخة يوميًا قبل زيادة أسعار الصحف فى دولة يزيد تعدادها على ٩٠ مليون نسمة، وقد انصرف الناس عن الصحافة المطبوعة وتحولوا إلى متابعة التليفزيون والقنوات الإخبارية والمواقع الإخبارية على الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعى، والتى لا تكلفهم شيئًا وتتيح لهم مضمونًا إخباريًا متنوعًا ومجانيًا.
وعلاوة على ذلك توصلت رسالة ماجستير أشرفتُ عليها مؤخرًا بكلية الإعلام جامعة القاهرة أن ٨٠٪ من الشباب يعتمدون على شبكات التواصل الاجتماعى كمصدرٍ للأخبار، سواء الأخبار الشخصية أو الأخبار السياسية أو الاقتصادية من خلال روابطها الموجودة على هذه الشبكات، ولا يكلفون أنفسهم عناء البحث فى المواقع الإخبارية والصحف الإلكترونية بل وصفحات هذه الصحف والمواقع على شبكات التواصل نفسها.
إن المشهد العام فى عام ٢٠١٦ يوحى بأن الإعلام أصبح فى أزمة حقيقية يجب أن يُعنى بها كل القائمين على هذه الصناعة الاستراتيجية التى تساهم فى الارتقاء بوعى الجماهير تجاه القضايا الملحة والمصيرية، التى تواجه مصر فى الوقت الراهن، يجب أن يجلس خبراء الإعلام وأساتذته وأصحاب القنوات والصحف والمواقع الإخبارية وخبراء الطباعة وأساتذة الاقتصاد للبحث عن آليات فعالة تعمل على خروج الإعلام المصرى من أزمته الراهنة.
وكلنا أمل أن يتجاوز الإعلام المصرى أزمته الراهنة فى عام ٢٠١٧، ليؤدى دوره الوطنى والتوعوى والتنموى للنهوض بالدولة المصرية والانطلاق بها إلى آفاق رحيبة من أجل توفير مستوى أفضل للمواطن المصرى.