بعد حسم قضية التناسب السليم بين كل من الصناعة الصغيرة والصناعة الكبيرة تطرح قضية هيكلة الصناعة نفسها، وعندئذ تواجه البلدان النامية مسألة أى الصناعات الكبيرة تركز عليها، لكن البلدان النامية تبدأ هذه المواجهة الصعبة، وهى محملة من قبل بأعباء التخصص فى إنتاج مادة أو أكثر من المواد الخام، ففى إطار التقسيم الدولى غير المتكافئ للعمل، ونظراً لعدم نضج العلاقات السلعية والنقدية داخل البلدان النامية، فإنها تكون فى العادة بلدانا مصدرة للخامات الزراعية أو المعدنية، مثل هذا التخصص الضيق يدخل الآن فى تناقض حاد مع الاتجاهات الرئيسية للسوق العالمية ومع اتجاهات تطور التجارة الدولية التى تلعب فيها المنتجات الصناعية دوراً متزايداً، فى ظروف يحتدم فيها الصراع فيما بين الدول الصناعية نفسها على الأسواق القومية على أساس جديد، فمن جانب، ما زالت البلدان النامية تعتمد أساساً على تصدير الخامات، وهى تصطدم دوماً بالإمكانيات المحدودة لزيادة صادراتها من المنتجات المصنوعة، ومن جانب آخر، ما زالت البلدان النامية تعتمد على السلع الصناعية المستوردة التى تعكس الخلل الكامن فى تطور الاقتصاد القومى، والتخلف الواضح فى قطاع الصناعة التحويلة، وأخيراً، فما زالت البلدان النامية تعانى من اختلال التناسب فيما بين حركة أسعار الصادرات وحركة أسعار الواردات،
ولذلك، فإنه لا يمكن البدء فى عملية التصنيع من المتخصص الدولى الراهن للبلدان النامية، بل إنه لا بد من إعادة النظر فى التقسيم الدولى الراهن للعمل، غير أن حصر عملية إعادة التقسيم الدولى للعمل فى إطار تخصص الإنتاج تبعاً للموارد البشرية والمالية الموجودة بالفعل لدى البلدان النامية، إنما يعنى موضوعياً تثبيت الوضع الحالى غير المتكافئ، فلا بد من الاعتماد على موارد إضافية تأتى من الخارج، بعبارة أخرى فإن السعى للتصنيع، وهو محاولة للاكتفاء الذاتى، لا يعنى الانعزال عن الاقتصاد العالمى ولا حتى عن السوق الرأسمالية العالمية، بل إنه، عند بدء عملية التصنيع، قد تضطر البلدان النامية إلى استيراد جزء كبير من المواد الغذائية والخامات اللازمة للصناعة، ومن ثم، فإن ما يبدو من الاعتماد المتزايد على السوق الرأسمالية الصناعية بوزنها الغالب فى التجارة الدولية سيظل لفترة طويلة مقبلة هى العامل الرئيسى لمعظم البلدان النامية.
ومن هذه المقدمة، نستطيع أن نعالج قضية بأى الصناعات الكبيرة تبدأ البلدان النامية، ومنذ البداية، ينبغى الحذر من التصور الخاطئ الذى ينطلق من واقع هذه البلدان، لكنه يجمد عند نقطة الانطلاق ولا يرسل نظرته بعيداً للأمام، وبعبارة أخرى، فإنه ينبغى ألا يكون واقع البلدان النامية سبباً فى قصور الرؤية أو التصور، ولهذا ينبغى عدم تجاهل فروع الصناعة الحديثة المتقدمة، بل ينبغى على العكس وضع أكثر فروع الإنتاج الصناعى ديناميكية فى خدمة التقدم، ومن ثم فإن على البلدان النامية أن تبدأ بالتركيز على تلك الصناعات الحديثة التى تكتمل دورتها الإنتاجية داخلياً، وتلك التى تتوفر لها مستلزماتها الأساسية فى الداخل، وفى هذا الصدد، فإن توافر الطاقة عنصر حاكم فى هذا التصور، أكثر مما تمثل الخامات نفسها، ويلعب النفط حتى الآن مثل هذا الدور بالنسبة للبلدان النفطية، لقد ظلت الصناعة حتى عام ١٨٠٥ تعتمد على الطاقة المتولدة من فضلات الإنسان والحيوان بنسبة ٩٤٪ وبعد قرن من الزمان، انقلبت الآية تماماً فأصبحت القوة الحيوانية تقدم ٦٪ فقط، بينما وفر الوقود الصلب والسائل والطاقة المائية ٩٤٪ من الطاقة المستخدمة، والآن أصبح النفط -على حد تعبير التقرير الذى وضعته لجنة فيللى برانت- «دم الحياة» للمجتمع الصناعى، وأصبحت البلدان النفطية مرشحة بدورها لتوطن الصناعات البتروكيماوية.
من هنا، صارت قضية علاقة التصنيع بكل من التصدير والاستيراد تنظر الآن فى ضوء جديد.
وكثيراً ما تطرح المشكلة هنا فى صيغة الاختيار بين استراتيجيتين بديلتين، هما استراتيجية إحلال الواردات واستراتيجية تنمية الصادرات، وبهذه الصيغة تصبح المشكلة مشكلة خارجية، تلتحم أحياناً بمشكلة العجز الخارجى، لكن العجز الخارجى بدوره مجرد تعبير عن اختلال التوازن الداخلى، صحيح القطاع الخارجى ليس مجرد قطاع سلبى، ليس رصيداً بالفائض أو بالعجز، لكننا إذا أردنا ننقل مشكلة التنمية إلى الصعيد الخارجى، فلن يكون هذا عن طريق التعديل فى أسعار الصرف أو التعويل على السوق الخارجية وإنما يكون كما ذكرنا عن طريق إعادة النظر فى التقسيم الدولى للعمل من قبل وذلك من أجل تخطى الهيكل المختل للاقتصاد القومى، هذا الهيكل الذى ما زال يكرس التبعية للاقتصاد الرأسمالى العالمى، ولهذا فإن مشكلة القطاع الخارجى إنما تحل جوهرياً أن صح هذا التعبير فى القطاع الداخلى، وليس معنى ذلك تجاهل العلاقة الوثيقة بين التصنيع والتجارة الخارجية، حيث يجب الجمع بين التصنيع للإحلال والتصنيع للتصدير فى إطار استراتيجية أشمل لإشباع الحاجات الأساسية للأغلبية الساحقة من السكان، تحقيقاً للتناسب بين هدف إشباع الاستهلاك وزيادة الاستثمار.
فالواقع أنه لا يمكن أن يكون الخيار بين ما يسمى استراتيجية إحلال الواردات واستراتيجية تشجيع الصادرات، ففى ظل أوضاع تكامل البلدان النامية مع الاقتصاد الرأسمالى، فإن كلتا الاستراتيجيتين تكرس بلا استثناء معالم التخلف والتبعية، ولقد أتيح لنا أن ندرس هاتين السياستين من خلال أشواط التنمية التى قطعتها البلدان العربية.
فمنذ السعى نحو التنمية الاقتصادية فى الستينيات، شهدت البلدان العربية توسعاً كبيراً فى الإنتاج الصناعى، وخلال هذه المدة، انتقل أغلب البلدان العربية بصفة عامة من مرحلة حاولت فيها التصنيع لإحلال الواردات إلى مرحلة أصبحت تتجه فيها للتصنيع من أجل التصدير، كان التصنيع لإحلال الواردات أول سياسة معلنة للتصنيع، ولقد قصد بهذه السياسة إنتاج بدائل للمنتجات المستوردة، باعتبار أن هناك سلفاً طلباً فعالاً عليها، واستندت هذه السياسة عندئذ إلى حقيقة تراخى قبضة الدول الرأسمالية على الدول النامية فيما بعد الحرب العالمية الثانية، مما أتاح الفرصة لقيام بعض الصناعات الاستهلاكية التى كان يتم استيراد منتجاتها قبل الحرب، كما استندت أيضاً إلى حقيقة أخرى هى معاناة الدول النامية من انخفاض حجم وقيمة صادراتها من الخامات وبالتالى انخفاض قدرتها على الاستيراد، فنشأت فيها صناعات محلية لتلبية طلبات الاستهلاك التى تعذر استيرادها، واستندت أخيراً إلى حقيقة ثالثة هى توافر قوة العمل الرخيصة والمواد الأولية الزهيدة، فعمدت إلى الجمع بين التكنولوجيا البسيطة وقوة العمل الكثيفة.
وبذلك تسنى أن تقوم صناعات محلية فى ظل ظروف صعبة تواجهها نظراً لارتفاع تكلفة الإنتاج بسبب ضيق السوق المحلية وضرورة استيراد جانب كبير من السلع الوسيطة للتصنيع وانخفاض جودة الإنتاج المبتدئ، وقد نظر عندئذ إلى سياسة التصنيع لإحلال الواردات بوصفها تجرى عملية تنمية صناعية تجعل هياكل الإنتاج القومى أكثر تكاملاً فيما بينها، ومن ثم فإن تكثيف الارتباطات فيما بين الصناعات قد يتم بتوليد ديناميكية اقتصادية تقوم على تكنيك جديد وعمالة ماهرة واستيعاب مضطرد للبطالة، والواقع أن للصناعة أثراً مضاعفاً على العمالة، فكل عمل فى الصناعة يمثل كمية من الإنتاج تتطلب مدخلات تكون هى بدورها مصدراً لعمالة أخرى، وفى الوقت ذاته فإن الاقتصاد الوطنى يصبح أقل حساسية للمؤثرات الخارجية الواردة من السوق العالمية، وفى النهاية، فلقد كان يؤمل أن تساعد سياسة التصنيع هذه على الحد من الواردات والهبوط بالعجز المتزايد فى المدفوعات الدولية.