إن إعادة قراءة التاريخ
ضرورة لكل من يهتم بأن يحيا في مستقبل أفضل، بل وأن يدرك واقع ومجريات حياته
اليومية، ويعد صدور القرارات الاقتصادية الأخيرة أحد أهم الموضوعات التي تجعلنا في
حاجة قصوى للكشف عن الجنة الوهمية التي ينشدها المتحدثون باسم الطبقة الوسطى
والمتحدثون باسم الفقراء ومعدومي الدخل تحت مظلة الكلمة البراقة "العدالة
الاجتماعية" التي رفعت شعارها في الستينيات من القرن الماضي، بينما تحمل
طياته معاني متعددة ومختلفة من شخص لآخر ومن حالة أسرة إلى حالة أخرى، ومن قرية إلى
نجع، ومن مدينة إلى محافظة.
من هنا نجد أننا يجب الاعتراف
بأن المثالية الاشتراكية التي صدرت إلينا في حقبة الستينيات قد فشلت بصورة كبرى في
النهوض بجمهورية مصر العربية، وأن الجنة التي زينت بقرارات تبدو جميلة وجيدة أدت إلى
الواقع المؤلم الذي نعيش فيه وتعد بمثابة السبب الرئيسي والمباشر للعديد من
الكوارث التي طالت جمهورية مصر العربية خلال الستين عاما الأخيرة ونعاني منها حتى
اليوم، أو في حدها الأدنى فإننا ملتزمون اليوم بسداد فاتورتها الباهظة.
لذا فإن مناقشة الأمر يجب
أن تتحلى بالهدوء والواقعية بعيدا عن الأحلام الوردية والمزايدات العنترية لا
لتصحيح المسار بل لكسب أصوات البسطاء وتشيد التماثيل وصنع البطولات الزائفة.
وبالتالي فإننا عند إعادة
قراء نتائج القرارات التي يتشدق بها الكثيرون بلا وعي أو عمق أو دراسة حقيقية
للعديد من الموروثات الاقتصادية التي تطورات مع مرور الزمن لتصبح حقوق لا يمكننا
المساس بها أو حتى الحديث عنها.
فما هى النتائج التي أدى
إليها دعم السلع التموينية دون تحديد لمن هو المستحق الحقيقي لهذا الدعم أو الذي
يجب أن يستفيد منه، ومن ناحية ثانية ساعدت فكرة الدعم على مصراعيها في إضافة سبب آخر
للزيادة السكانية المدمرة لكل تنمية والتي استندت بشكل طبيعي لأن كل طفل يولد يضاف
إلى البطاقة التموينية يحصل على نصيبه من السلع، كما أنها من ناحية أخرى يستحق هذا
الطفل تعليما مجانيا والذي أصبح مع مرور الوقت بلا تعليم حقيقي بل مجرد أسماء تضاف
الي صفوف المدارس التي تهالكت بفعل الزمن وتهالك معها مستوى المعلم فصار المعلم لا
يشرح والطالب لا يفهم والنتيجة تكدس أعداد من المتعلمين بلا تعليم وهو الأمر الذي
ساعد على انتشار الدروس الخصوصية التي استنزفت دخل الأسرة وأدخلتها في دوامة
لتوفير متطلبات التعليم وبالتالي غاب دورها الرئيسي لتربية الاطفال ومتابعتهم مما
أدى إلى تفكك الأسر والانهيار الأخلاقي الذي أصاب المجتمع بأثره.
وعلى صعيد متصل فقد أفرز
ذلك عن أعداد مهولة من حاملي الشهادات فقط الذين لا تحتاج إليهم الدولة ولا يستفيد
منهم المجتمع، ولا أبالغ هنا إذا قررت أنهم حتى لا يستطيعون بهذا التعليم أن
يفيدوا أنفسهم ويحققوا أحلامهم.
أفرزت أيضا حقبة
الستينيات من القرن الماضي عن موروث التعيين في العمل الحكومي فور التخرج، الأمر
الذي أنتج البطالة المقنعة من خلال توظيف الآلاف بلا فائدة ولا إنتاج بل مجرد
التعيين في مسمى وظيفي يحصل منه المعين على مرتب من الدولة دون أن يقدم شيئًا مما أثقل
كاهل الدولة بمرتبات الموظفين من جهة وقتل الإبداع والابتكار مما أدى إلى مزيد من
الاستيراد وارتفاع التضخم على مستوى الدولة في ظل غياب الإنتاج والعمل، حتى
العلاقة بين المؤجر والمستأجر لم تسلم من القرارات العشوائية.
كانت هذه هي الجنة
الوهمية التي يبكي عليها الكثيرون الآن، الجنة التي أفرزت عن طبقة لا تعمل وتعليم
بلا تفكير وإبداع وموظفين بلا عمل وطاحونة استهلاك لا تهمد وملاك بلا أملاك، مما
ساعد على ما أصاب المجتمع بعد في فترة السبعينيات في ظل سياسات الانفتاح الاقتصادي.
لذلك كان من المحتم أن يأتي الوقت الذي تقف فيه الدولة وقفة جادة للمكاشفة والمصارحة حتى نستيقظ وندرك أننا كنا نعيش في جنة وهمية.