السؤال الأكثر عسرًا فى الإجابة عنه اليوم هو مَن «داعش»؟ هناك كم كثير من الحبر الذى سال ولا يزال فى تحديد من هو «داعش»؟ وكيف ظهر إلى الوجود؟ ولماذا تمدد بهذا الشكل المخيف فى أماكن كثيرة؟ ولماذا لم تستطع تقريبًا أربعون دولة هزيمته حتى الآن؟ بما فيها دول كبرى؟ الإجابات كثيرة ومتعددة، وكثير منها صاحب هوى، أو مقرون بجهل يعزو ظهوره وبقاءه إلى ذلك السبب المفرد أو هذا مبتدئًا بالنتيجة ومتغافلاً عن الأسباب الأعمق! إنها ثقافة الاستسهال التى تريح من عناء التفكير الجاد فى الظاهرة. يرجع تكوّن «داعش» إلى عدد من الأسباب، أما أسباب نموه فقد تضافر عدد من العوامل اللاحقة كى ينمو ويتمدد، إذن لدينا «تكوين ولدينا نمو»، فى التكوين علينا أن نرجع إلى الخلف بضعة عقود، فى الثمانينيات والتسعينات، كان هناك نظامان فى كل من العراق وسوريا يدينان بالبعث، كان بينهما «ما صنع الحداد» من الخلاف، وكان بينهما تطابق فى الأهداف الخاصة. الهدف الأسمى المشترك لهذين النظامين هو الحفاظ على أمن النظام، وإعطائه الأولوية القصوى على ما عداه من أمن. أمن النظام لا يعنى أمن الدولة ولا يعنى حتى أمن الحكومة، بل يعنى «أمن الرئيس وحاشيته المقربة»، لذلك أطلق النظامان (على مرحلتين)، مرحلة العداء ومرحلة التعاون (التى تمت فى النصف الثانى من التسعينيات)، أطلق كل منهما جيشًا من الأجهزة للتغلغل فى نسيج النظام الآخر، كانت تلك الأجهزة معادية لبعضها أولاً،، إلا أن نقطة التحول الأولى جاءت بعد منتصف التسعينيات، أى بعد انهزام نظام صدام حسين من الكويت، ثم لجوئه من أجل التخلص جزئيًا من الحصار إلى النظام البعثى الآخر فى دمشق لفتح ثغرة فى الحصار. نظام حافظ الأسد كان يخشى أيضًا ما وصل إليه حليفه الجديد فى بغداد، فقام بين الأجهزة، بمباركة من النظامين وتحت مظلة التهرب من شروط الحصار، تعاون ظاهره تجارى فى سياق «النفط مقابل الغذاء» وباطنه سياسي، محاولة تجنيد كل فريق من محاربى الفريق الآخر، قام ذلك التعاون على إطلاق يد الأجهزة للتعامل التجارى - السياسى، فنمت مجموعة هائلة من المصالح، كان لها مظهر انتشار «الذوق العراقى» فيما حول دمشق من ملاهٍ ومطاعم، ونمت طبقة «عنكبوتية - طفيلية» من مجاميع المخابرات والتجار المستغلين ومن فى حكمهم، بدا لهم أن محور «العراق - سوريا» هو ملعب السلطة والثروة. لم يكن النظامان معنيين بانتشار ذلك الود والتعاون بين الأجهزة، والتجنيد والتجنيد المضاد، ولا حتى بالثراء الفاحش للبعض، الذى كون له شبه طبقة مستفيدة وواسعة من ضباط المخابرات وتجار العملة وزعماء التهريب، ما دام أولاً بعيدًا عن تهديد أمن النظام بمعناه الضيق، وثانيًا إلهاء تلك الأجهزة فى تلك التجارة المحرمة التى ساعد عليها وقوع بغداد فى حصار دولي! لذلك راق لهذه الطبقة الجديدة فكرة «الدولة العراقية - السورية» باختصار التى تحولت إلى «داعش». نقطة التحول الثانية جاءت بعد سقوط النظام العراقى فى عام ٢٠٠٣، حيث أصبح هناك دافعان للنظام السورى تجاه العراق، الأول هو محاولة إرث النظام فى العراق، أو على الأقل فى بعض من أطرافه ذات التكوين البعثى، قرى ومدن غرب العراق. أما الدافع الثانى والأهم فهو إغراق المحتل الجديد (الأمريكان) بعدد من المشكلات التى تبطئ تقدمه نحو دمشق، كما كان يعتقد نظام الأسد وقتها. كان التخوف الأخير قد ظهر حتى فى أدبيات حزب البعث السورى فى ذلك الوقت، وتأكيده الدائم أن سقوط العراق يعنى استهداف دمشق، ربما من أجل تعزيز الجبهة الداخلية وتخويف الطبقة الحاكمة من مصير أسود، إلا أن الاستفادة فى الحشد المضاد كانت فى الأساس من تلك الطبقة «العنكبوتية - الطفيلية» من منتسبى الأجهزة، وتجار السوق السوداء، مغطاة بعدد من أصحاب السوابق ومن أطلق سراحهم من سجون النظام وتم تجنيدهم، وأنشئت معسكرات التدريب فى غرب سوريا، وعندما تعاظمت تدفقات المتطرفين من تلك القواعد إلى الداخل العراقى قامت القوة الأمريكية فى العراق بعدد من الغارات ضد تلك المعسكرات عام ٢٠٠٨ أولاً على مركز الاستقبال والتوزيع فى قرية حويجة السكرية فى البوكمال، وأيضًا بقصف مكان للتدريب قرب دمشق، ثم تصاعد الأمر إلى أن وصل إلى تهديد نورى المالكى (رئيس الوزراء) بشكوى سوريا فى مجلس الأمن عام ٢٠٠٩! نظام الأسد بذل جهدًا مستمرًا للاستفادة من عدم رضا متوسع لأهل السنة فى غرب العراق، مستعينًا بأدوات يعرفها، وهى ما تكون له من قوى وجماعات فى أوقات شهر العسل التجارى - السياسى مع نظام بغداد السابق، جُلهم من المتعاطفين أو المنتمين للحزب البعثى، مع خليط من مجاميع المخابرات السورية، وعند تطور شراسة النظام العراقى الطائفى ضد مكون مهم هو السنة، الذين تركوا لأشهر فى الساحات دون مجيب! زادت مساحة عدم الرضا التى وظفها النظام السورى لصالحه. وهكذا تكوّن «داعش» الذى توسل التطرف والعنف، ولكنه يحتوى من العناصر السياسية والفنية فى التجارة والتهريب والسياسة والسلاح ما مكنه من التوسع والاستمرار. أما فى مرحلة سميتها آنفًا «النمو» فدخلت أيضًا جماعات متشددة وبقايا «القاعدة» التى التجأت إلى إيران من أفغانستان، فشجعتها إيران لصالح العمل لسوريا والضغط على الأمريكان، فأصبح هناك تحالف واسع فى جله شيطانى، استطاع أن يجند كثيرًا من الناقمين والمهمشين فى مرحلة النمو من مناطق عربية أخرى، إما تحت غطاء ثقافى - دينى، أو اقتصادى دافعه البطالة والعوز، أو بسبب فشل سياسى أو شخصى.. تلك المجموعات الغاضبة تحتاج إلى رافعة لبلوغ «العزيمة القتالية» فاقتطفت من الإسلام الاسم، وأحيت طرائق التشدد وفتوى الجهل. لقد استفادت تلك المجاميع من القتامة المصاحبة للتغيرات الهائلة التى هيأت حاضنة واسعة من قطاعات فى المجتمعات العربية وخارجها قابلة وراغبة للتجنيد، كل ذلك هيأ مناخًا مناسبًا لنمو الظاهرة الداعشية. فـ«داعش» هو نتيجة لعدد من العوامل أساسها الفشل الهيكلى للدولة البعثية فى كل من العراق وسوريا، والاستحواذ «البلطجى» على الدولة فى كليهما، مع تهميش لمكونات واسعة من الشعب وتسلط الأجهزة المتوحشة على الناس، فهو نتيجة طبيعية لذلك الفشل المركب مع تضافر عوامل مساعدة. الخروج من الظاهرة الداعشية لا يأتى فقط بمحاربتها عسكريًا، الخروج منها والتخلص من أعمالها هو باستئصال أسباب سرقة الدولة، وتحكم البلطجة السياسية فى كل من العراق وسوريا، الذى ما زال قائمًا، ودون وضع نهاية لهذا الاستحواذ، سوف تنطلق عشرات الدواعش بأسماء وأعلام مختلفة، وكما الطبيب الذى يعالج أصل الداء، علينا التفكير فى معالجة الأسباب العميقة لتلك الظاهرة وهجر ثقافة الاستسهال!
آراء حرة
داعش.. السؤال المُحير
تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق