السبت 23 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

يسألونك عن الدولة المدنية الحديثة «19»

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لا يخالجنى شك فيما تملكه الدولة المصرية العريقة من قدرات هائلة يمكن من خلالها التوجه مباشرة إلى الطريق الصحيح نحو تحول ديمقراطى حقيقى وجاد، على إثره تقترب الطموحات الثورية من إدراك متطلبات بناء «دولة مدنية حديثة»، على عاتقها تقع مسئولية تحقيق التنمية الشاملة والمستدامة، وفق شروط المنظومة القيمية العالمية، لا بالالتفاف عليها، أو دهسها، أو التحايل فى مواجهة ما تستلزمه من مقتضيات، بالفعل تحرم البعض من مكتسبات غير مشروعة لطالما اعتادوا عليها حتى بات تصحيحها أمرًا بالغ الصعوبة.
من هنا أرى أن حاجتنا ماسة بالفعل إلى تجسيد مبدأ «سيادة القانون»، باعتباره أحد المبادئ الحاكمة لكل سعى وطنى مخلص لبناء «الدولة المدنية الحديثة»، إذ لا يمكن التفريط فى العدالة والمساواة للفصل فى بيان وتحديد الحقوق والواجبات ونحن نبنى قواعد «الدولة المدنية الحديثة»، ذلك النموذج الأرقى الذى توصلت إليه المسيرة الإنسانية بعد فترات طويلة قضتها تحت وطأة معاناة شديدة، وتخبط وارتباك وعشوائية ويلات مجتمعات ما قبل «الدولة»، ثم مواجهة الكثير من المآسى الإنسانية جراء إحكام «الدولة الدينية» قبضتها على المجتمعات على حساب حق الشعب فى العيش الكريم الحر تحت مظلة إنسانية حاكمة من العدالة والمساواة، بما يوفر فرصًا حقيقية لترسيخ بعضًا من مبادئ «الدولة المدنية الحديثة» مثل سيادة القانون، والتداول السلمى للسلطة، وصولًا إلى التراكم الديمقراطى الذى أكد حرية الرأى والتعبير، وحرية تداول المعلومات، إلى جانب الحريات الاقتصادية، ومن ثم تكتمل منظومة القيم والمبادئ المؤهلة إلى «الدولة المدنية الحديثة».
واتصالًا بما تناولناه فى الأسبوعين الماضيين عن أهمية «المجتمع المدنى» فى «الدولة المدنية الحديثة»، نؤكد أن الحديث اليوم عن «سيادة القانون» فى «الدولة المدنية الحديثة»، ما هو إلا تواصل لذات المنطق، إذ يجدر بنا إجراء الكثير من المراجعات لجملة من الملامح التى تشوه وجه البناء الذى يطيب لنا أن ننسبه إلى «الدولة المدنية الحديثة». وعلى رأس المراجعات الواجبة ما يتعلق بالجمعيات الأهلية، كجزء من «المجتمع المدنى»، غير هادف للربح، وما يمكن أن يوفره من سياج مانع لانزلاق سيادة القانون من عليائه إلى ساحات التراضى والتطوع حيث المجتمع الأهلى. ومن ذلك أرى ما يلي:
يعانى المجتمع المصرى من خلط شديد بين كثير من المفاهيم والأدوار والمسئوليات، من ذلك أنه، وباسم القانون، يزايد البعض على دور الجمعيات الأهلية فى بناء وتنمية المجتمع، متهمًا إياها بفتح بوابات واسعة للعمالة والخيانة ومعاداة المصلحة الوطنية، بينما الحال أننا نعوض بذلك فشلنا فى إنتاج قانون حاسم صارم، ننفذه بدقة بما يسد كل الثغرات أمام الفاسدين، الذين لا يخلو منهم أى مجتمع، دون أن نُفرغ مفهوم العمل الأهلى من محتواه الراقى.
من هنا، فإن الطعن على المشاع فى شرف ووطنية الجمعيات الأهلية التى انحرفت عن سواء السبيل، لا ينبغى أن يدفعنا إلى تشويه مفهوم العمل الأهلى الطوعى ككل، لما يقدمه الأخير من دعم وتعزيز لأدوار ووظائف مجتمعية تعجز الحكومة وحدها عن النهوض بها. حتى أن العمل الأهلى بات عنوانًا ومقياسًا معتبرًا فى قياس مدى تطور المجتمعات ورقيها.
يُضاف إلى عدم صحة التعميم، فإن التركيز بالنقد على الجمعيات التى تعمل فى مجالات تتصل بالعمل الحقوقي، ومن ثم إبراز مساوئها تحديدًا، ينبغى أن يقابله دعم واضح للجمعيات العاملة فى مجالات تنموية أخرى، ولنا هنا أن نشير إلى أن صندوق «تحيا مصر» ما هو إلا عمل أهلى يستنهض همم أبناء الوطن للتكاتف فى مواجهة التحديات الكبيرة التى تواجه الوطن فى الظروف الصعبة الراهنة. وغيره كثير من الجهود الأهلية تستحق كل إشادة ودعم.
الممارسات التى سعينا بها إلى إخراج قانون جديد للجمعيات الأهلية، لا تنم أبدًا عن وعى حقيقى بدورها فى بناء «الدولة المدنية الحديثة»، ما بين تجاهل لرؤية الحكومة، وتسابق للموافقة على القانون دون نقاش مجتمعى كبير. حتى بدا الأمر وكأننا لا ندرك أن للحكومة دورها فى الإشراف على منظومة الجمعيات الأهلية، ولا نعى أن «الناس» هم المنوط بهم بالفعل بناء ذلك العمل الأهلى الطوعي، ومن ثم لم ينل القانون حتى الآن حقه الواجب من الانتباه الشعبى، ولا من الرضى الحكومى، ولا من القبول لدى الجمعيات الموجودة بالفعل. ومن ثم كان المجال مفتوحًا، وسيظل، لكثير من المزايدات والتشهير، وصولًا إلى حد التخوين والتخويف.
من الأمور المختلطة على نحو معيب فى تجربتنا الوطنية، والتى لا تقتصر على المرحلة الراهنة فحسب، أن نجد أن الحكومة إذ ترتاب فى كل عمل أهلى، فإنها تعتبره خروجًا عن قبضتها على شئون الدولة. ثم، ومن جهة أخرى نجدها، الحكومة، تشارك عنوة المجتمع الأهلى فى مهام بعينها بشكل يُفسد عليها تفردها فى إدارة شئون الدولة. من ذلك أن للجمعيات الأهلية دور بارز فى التعامل مع كل ما يمكن أن يندرج تحت عنوان «خصوصية المجتمعات»، خاصة فى المجتمعات المتفردة سواء فى الصعيد أو فى المناطق الحدودية بصفة عامة. فنجد أن على المجتمع الأهلى مسئوليات حقيقية فى التعامل مع كثير من الخلافات والنزاعات الأهلية قبل أن يصل الأمر إلى حدود لا بديل فيها عن يد القانون الخشنة التى تملكها «الحكومة» بالفعل. 
وللتأكيد على ما سبق، نشير إلى أن «خصوصية المجتمعات» متباينة، بينما القانون عام وشامل، مهما حاول اعتبار الخصوصية المجتمعية. ومن ثم كان على مؤسسات المجتمع الأهلى متابعة ما ينشأ من نزاعات محلها الرئيسى الخصوصيات المجتمعية. ثم إذا لم تتحقق سيادة القانون، يأتى دور الحكومة لاحقًا لإنفاذ القانون بشموليته الوطنية، فلا تُنتهك إذن هيبة الدولة فى مجالس عرفية، ولا نهبط بالقانون إلى مستوى الأعراف القابلة للمساومات والحلول الوسطية التى إن قبلها القانون ورجاله فقد مضمونه. 
وعليه، ليتنا نكف عن إعلاء شأن كل خصوصية مجتمعية فوق القانون، فنصطدم ومجمل المبادئ الحاكمة «للدولة المدنية الحديثة»، فلا خصوصية معتبرة لكل ما يحرمنا من فرص الترقى صوب آفاق «الدولة المدنية الحديثة» بما تتمتع به من مبادئ إنسانية راقية يمكن جمعها فى «مجتمع يتمتع بحكم ديمقراطى رشيد». وعليه لا ينبغى الخضوع لكون الجلسات العرفية يمكن أن تحل محل سيادة القانون، فيجلس، بديلًا عن المجتمع الأهلى، رجال مهمتهم إرساء العدالة وتنفيذ القانون جلسات «ودية» ندهس فيها سيادة القانون ونعلى من شأن الأعراف التى سادت فيما قبل «اختراع الدولة». وبذلك ننزع عن العمل الأهلى إحدى مسئولياته، ونروج بين الناس كافة مجابهة يد الدولة، باعتبارها الجهة الوحيدة المنوط بها احتكار القوة لإنفاذ القانون. يحدث ذلك كثيرًا ويراه الناس على شاشات الفضائيات ليل نهار، باعتباره حلولًا أنجزتها أجهزة الدولة، بينما الواقع أنها تشققات خطيرة فى بناء «الدولة المدنية الحديثة»، تعبر عن ضعف العمل الأهلى من جهة، وعن غياب الوعى بمفهومه من جهة أخرى. وفى ذلك أُحيلك إلى ما يحدث من وقت لآخر من اشتباكات بين الشرطة وبعض الأهالى هنا أو هناك، حتى تطورت مؤخرًا، فى إحدى مناطق الصعيد، من القذف بالحجارة وإحراق سيارات الشرطة إلى تبادل إطلاق النار، على إثر غياب حقيقى للعمل الأهلى القادر وحده على استيعاب تبعات الخصوصية المجتمعية!.. وإلى الأسبوع المقبل بإذن الله.